مدير المنتدى Admin
الجنس : عدد المساهمات : 836 تاريخ التسجيل : 14/12/2010
| موضوع: الإجراءات القضائية فى العصر البطلمي الجمعة ديسمبر 05, 2014 1:25 pm | |
| الإجراءات القضائية
بعد استعرضنا الهيئات القضائية المختلفة التي عرفتها مصر في عهد البطالمة، يجدر بنا أن نبين كيف كانت الشكوى تحرر والجهات التي كانت تقدم إليها والإجراءات التي كانت تتبع فيها. إن الغالبية العظمى من الشكاوي التي وصلتنا حتى الآن من القرن الثالث قبل الملاد ـ وجلها من الفيوم ـ كانت تحرر على وجه (recto) لفافة البردي في سطور تتقاطع عموديًا مع نسيج اللفافة، التي كان عرضها عادة حوالي 22سم أما طولها فكان يتوقف على طول الموضوع، مما يدعو إلى العتقاد بأنه كان لا يجوز في القرن الثالث تحرير الكشاوي بأي شكل كان أو على أية قطعة ورق يجدها صاحب الشكوى أو كاتبها. بل يبدو أنه كان يوجد ورق خاص لهذا الغرض، على نحو ما يوجد عندنا اليوم ورق خاص عليه طابع الحكومة لتقديم الطلبات الرسمية.
وفي أغلب وثائق القرن الثالث كانت تستخدم صيغة معينة في تحرير الشكاوي، لا ندري إذا كانت التقاليد هي التي أوحت باتباعها أم أن الحكومة هي التي أمرت باستخدامها. وعلى كل حال فإن الشكاوى تشبه الخطابات من حيث أنها كانت تبدأ بعبارة التحية وتنتهي بعبارة الوداع، مع فارق واحد، وهو أن الشكاوى كانت تستخدم في ذلك عبارات أكثر كلفة وتفخيمًا. ومما يجدر أيضًا بالملاحظة أن طريقة كتابة الخطابات كانت كطريقة كتابة الشكاوي أي على وجه لفائف البردي في سطور تتقاطع عموديًا مع نسيجها. وقد كان لب الشكوى ينقسم ثلاثة أقسام: يشرح أولها الوقائع التي أدت إلى تقديمها، ويحوى ثانيها طلبات الشاكي، ويتضمن ثالثها في بعض الأحيان دعاء للملك، أما في أغلب الأحيان فكان ويتضمن ثالثها في بعض ال؛اين دعاء للملك. أما في أغلب الأحيان فكان يتصمن ما يؤكد أن الملك بإعطاء الشاكي حقه يثبت عدالته وحسن طويته ويبرهن على أنه حامي رعيته وملاذهم الأعلى. وفي القرن الثالث كان لب الشكوى يبدأ بقول المشتكي "لقد أضر بين (فلان)" . وفي بعض الأحيان كان يكتفي بذكر اسم المدعي عليه فقط، وفي أحيان أخرى كان يضاف إلى ذلك اسم أبيه وجنسيته ومقره وصناعته وكل ما يساعد على التعرف عليه.
وفي القرن الثالث قبل الميلاد، كانت الشكوى توجه دائمًا إلى الملك، وتسلم إما إليه شخصيًا أو إلى ممثلة في الإسكندرية، وفي أثناء غيابه عن العاصمة كانت تودع في "باب الأحكام". وفي خلال هذا القرن كان يسمح لأصحاب الشكاوى الموجهة إلى المك بتقديمها إلى حكام (قواد) المديريات أو المحاكم، غير أنه عند نهاية هذا القرن عدل عن هذا الترخيص فيما يخص القواد فقط. وكانت الشكاوى المقدمة للملك يفحصها رجال سكرتاريته، وتحال إما إلى محكمة الملك أو إلى محاكم أخرى أو إلى قواد المديريات إذا طلب الشاكين ذلك. وعند إحالة الشكوى إلى محكمة الملك كان يتبع ذلك إعلان المدعي عليه للمثول أمام المحكمة.
وكانت القضايا تنظر أمام محاكم القضاة المصريين والمحكمة المختلطة أما نتيجة لقيام القائد بإحالتها إليها بعد فشله في تسوية النزاع وديًا، أو نتيجة لتقديم الشكاوى إلى هذه المحاكم مباشرة. ويتعذر علينا أن نتبين من معلوماتنا الراهنة كيفية إعلان المدعي عليه للحضور أمام هذه المحاكم.
وكانت القضايا تنظر أمام محاكم القضاة الإغريق نتيجة لإحالتها إليها أو لتقديم الشكاوي مباشرة إليها بإيداعها في الصندوق (angeion) المخصص لهذا الغرض. وكان قضاة المحكمة يقومون بتحقيق الشكوى قبل إعلان المدعي عليه للحضور، وكان يتولى إعلانه أما كاتب المحكمة أو المدعي نفسه.
وعند إحالة الشكوى إلى قواد المديريات أو تقديمها إليهم، كان يتولى فحصها موظفون مختصون بذلك، وإذا كان يمكن التصرف فيها في العاصمة، فإن الإجراءات الضرورية كانت تتخذ في الحال، وكان يوضع في أسفل الشكوى ملخصها. أما في الحالات الأخرى فإنه كان يوضعه في اسفل الشكوى توقيع موجه إلى الابيستاتس المحلي (الحاكم الإداري للمركز أو القرية) لبيان الإجراء الذي يجب أتخاذه في الموضوع، أو يحرر بذلك خطاب خاص إذا اقتضى الأمر ذلك. وبعد ذلك كانت تسلم للمشتكي شكواه أو ربما على الأرجح صورتها، ليحملها بنفسه إلى الابيستاتس المختص ليقوم بتنفيذ ما جاء في التوقيع.
وفي بعض الحالات كان الابيستاتس يفض الخلاف وينهي الأمر، ويبدو أنه في هذه الحالات كانت الشكوى تحفظ بعد ذلك في سجلات الابيستاتس أو سجلات القائد. وفي بعض الحالات الأخرى كان الابيستاتس لا يستطيع فض الخلاف، فيرسل طرفي الخصومة إلى القائد ويرد إليه الشكوى، وعليها أو معها محضر بما دار عند استدعاء الطرفين أمام الابيستاتس. وقد كان القائد أو مكتبه يتصرف في الالتماسات على نمط الشكاوي، فيستبقى بعضها لإنهائه محليًا ويرسل الجانب الأكبر نمط الشكاوى، فيستبقى بعضها لإنهائه محيلًا ويرسل الجانب الأكبر إلى الموظفين المختصين مصحوبًا بالتوقيعات التي تنطوي على التعليمات الواجب اتباعها. ولم يكن على الموظف المختص إلا تنفيذ هذه التعليمات وبذلك ينتهي الأمر. وإذا لم يحقق ذلك مطالب صاحب الالتماس، فإنه كان يقدم شكوى جديدة، أي أن الالتماس كان لا يرد ثانية إلى القائد لإعادة النظر فيه بعد الموظف المختص.
وإذا كان النزاع بين خصمين من بلدين مختلفين فإن الشكوى كانت ترسل إلى بلد المشتكي منه، إذ نعرف مثلاً أنه عندما انتقلت المدعي عليها من القرية التي كان يعيش فيها الخصمان إلى قرية كركسوخا (Kerkesoucha)، أرسلت الشكوى إلى أبيستاتس القرية الجديدة وفي قضية أخرى كان الشاكي يسكن كروكديلوبوليس وخصمه فاربايثا (Pharbaitha) فأرسلت الشكوى إلى أبيستاتس فاربيثا.
وما كان الدور الذي يقوم به الأبستاتس وما مدى اختصاصه؟ وهل كان هذا الدور واحدًا على الدوام مهما كان موضوع الشكوى، أم أنه كان يتغير تبعًا لما يتضمنه توقيع القائد؟ وهل كان عمل الأبيستاتس مقصورًا على استدعاء طرفي الخصومة لمصالحتهما بطريقة ودية بحث وإرسالهما إلى القائد إذا تعذر ذلك؟ أم هل كان في وسع الابيستاتس أيضًا أن يصدر حكمًا قاطعًأ على الأقل في بعض الحالات ويقوم بتنفيذه؟
لعل من الأوفق أن نلقي نظرة على توقيعات القائد قبل أن نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة. إن دراسة هذه التوقيعات دراسة عميقة أدت إلى تقسيمها ستة أقسام على النحو التالي:
(1) يطلب إلى الابيستاتس بحث الشكوى لكي يرد الحق إلى صاحبه ونسوق مثلاً للشكاوى التي وضع عليها توقيع من هذا القبيل شكوى قدمها شخص يدعى أمونياس، لأنه أقرض شخصًا آخر يدعى سيوتس (Seuthes) كمية من الحبوب، على أن يردها من المحصول الجديد لكنه لم يف بوعده. ولذلك طلب أمونياس في شكواه أن يكتب القائد إلى الابيستاتس لكي يستدعى سيوثس أمامه ويرغمه على سداد دينه إذا كان أمونياس صادقًا في دعواه. أما إذا أنكر سيوثس الدين وأقسم على ذلك فإن أمونياس ينزل عن حقه، لكنه وقد التجأ إلى الملك الذي يعمل لصالح كل رعيته كان واثقًا من أن حقه لن يضيع. أما كيف انتهى هذا الإشكال فهذا مالا نعرفه. لكن هب أن المدعي عليه قد أنكر. أكان حق المدعي يضيع وينتهي الأمر عند ذلك؟ أننا نعرف من شكوى أخرى أن شخصًا يدعى فيليسكوس أعطى صوفًا لسيدة تدعى هديا (Hedeia) لتصنع له معطفين، إلا أنها لمتصنع سوى معطفًا واحدًا وامتنعت بدافع سوء النية عن صنع الآخر، فالتمس في شكواه أن يطلب القائد من الأبيستاتس إرسال المدعى عليها إلى القائد ليرغمها على الوفاء بالتزماتها فوضع على الشكوى توقيع من النوع الذي ذكرناه. ويبدو أن الابيستاتس قد استدعى الطرفين لكنه لم يستطع الوصول إلى نتيجة حاسمة، فحرر بذلك محضرًا على ظهر الشكوى انطمست أغلب معالمه لكننا نستطيع أن نتبين منه أنه أرسل الخصمين إلى القائد. وماذا فعل القائد؟ هل حاول بدوره رد الحق إلى صاحبه؟ وإذا أخفق في ذلك، أكان يقدم الأمر للمحكمة المختصة أم يفصل هو فيه؟ إننا نرجح الاحتمال الأول، لأننا نستبعد أن القائد كان يملك عادة الفصل في مثل هذه الأمور.
(2) يطلب إلى الأبستاتس أن يحاول مصالحة الطرفين، أما إذا أخفق في ذلك فكان يجب إعادة الشكوى إلى القائد ليبحثها، أو لتقديم المدعي عليه للمحكمة المختصة. وماذا كان يقصد بقيام القائد ببحث الشكوى؟ إننا نستبعد أن القائد كان يملك حق إصدار حكم فيها، لأن أغلب الشكاوى التي تحمل توقيعًا من هذا النوع خاصة بمنازعات مدنية شبيهة بالتي كانت المحاكم المصرية والإغريقية والمختلطة تفصل فيها، ولم يزعم أحد أنه كان للقائد اختصاص مدني. فهل كان القائد يحاول فض النزاع وديًا، وإذا عجز هو أيضًا عن ذلك كان يقوم بالتحقيق اللازم ثم بعرض الأمر على المحكمة المختصة؟ هذا محتمل جدًا. ويبدو أنه عندما أثبتت التجربة عدم فائدة محاولة فض النزاع وديًا بعد فشل الابيستاتس في ذلك، كان القائد لا يحاول ذلك. ومن ثم أصبح التوقيع لا يشير إلا إلى تقديم الأمر للمحكمة المختصة، أو إلى الفصل في الأمر وفقًا للقوانين إذا لم ينجح الابيستاتس في مصالحة الخصوم. ويؤيد ذلك أن التوقيعات التي من الطراز السابق قليلة جدًا وترجع كلها إلى العام الخامس والعشرين من حكم بطلميوس الثالث، على حين أن التوقيعات التي من الطراز الأخير كثيرة جدًا وترجع إلى عهد بطلميوس الثالث والرابع. ولا يبعد أن القائد كان يقوم كذلك بالتحقيق اللازم في الشكاوى التي تحمل توقيعات من هذا الطراز الأخير. ولا داعي لذكر أمثلة من هذه الشكاوى، فقد مرت بنا بعض الأمثلة عند الكلام عن المحاكم المختلفة.
(3) يطلب إلى الابيستاتس الاكتفاء بإرسال المتهم إلى القائد. ولم يوجد هذا التوقيع إلا على شكوى واحدة قدمتها سيدة تدعى فيليستا (Philista) في العام الأول من حكم بطلميوس الرابع، لأنها بينما كانت تستحم في حمام قريتها فاجأها بتخون (Petechon) خادم الحمام وصب عليها ماء ساخنيًا، فأحدث حروقًا في بطنها وفخدها الأيسر، ولذلك التمست هذه السيدة من القائد أن يطلب إلى الابيستاتس إرسال المتهم إليه ليبحث الموضوع. لكننا لا نعرف ماذا تم في هذه المسألة بعد ذلك، هل حقق القائد الشكوى وفصل فيها، أم قام بالتحقيق وأحال القضية إلى المحكمة المختصة؟ إن الاحتمال الثاني، فيما يبدو، أدنى إلى الحقيقة.
(4) يطلب إلى الابيستاتس إرغام المدعي عليه على مراعاة العدالة، وإذا أبي ذلك فإنه كان يتعين على الابيستاتس إرساله إلى القائد. وقد وجد هذا التوقيع على ثلاث شكاوي من القرن الثالث، لم تصل إلينا منها في حالة جيدة سوى واحدة فقط. وقبل أن نسرد هذه الشكوى. يجب أن نشير إلى أنه كان يوجد في بلاد الإغريق وجزر بحر أيجه جمعيات كان يتعين على أعضائها الاشتراك في مراسم دفن زملائهم، أو كانوا على الأقل يدعون للاشتراك في الحفلات التي تقيمها الجمعية بمناسبة من يتوفون من أعضائها. وفي بعض الأحيان كانت الجمعية تخصص مبلغًا لتقديم باقة من الأزهار للمتوفي أو كانت تتحمل نفقات الدفن أو تدفع لأسرة المتوفى مبلغًا، يبدو أنه كان لمساعدتها على تكاليف الدفن. وتحدثنا الوثائق الديموتيقية عن وجود جمعيات من هذا القبيل في مصر، كان أعضاؤها يرتدون الحداد على زملائهم المتوفى آنية مملوءة بالجعة وأحيانًا يدفعون تكاليف التحنيط والدفن. ويتضح من الشكوى التي سنلخص موضوعها أنه كانت توجد أيضًا في مصر جمعيات مماثلة للإغريق ويبين من شكوى أخرى أنه كانت توجد أيضاً جمعيات مماثلة للسيدات المصريات. وفحوى الشكوى التي وجد عليها التوقيع الذي نبحثه أن سيدة إغريقية تدعى كراتيا (Crateia) توفي أخوها، لكن الجمعية التي كان عضوًا فيها لم تحتفل بجنازته ولم تدفع تكاليف الجنازة ولم يشهد أحد منأعضائها دفنه. ولذلك قدمت شكوى ضد فيليبوس (Philippos) وديونيسيوس، وكان أحدهما كاهن الجمعية والآخر رئيسها، فطلب القائد إلى الابيستاتس أن يبحث قانون الجمعية وبرغم المدعي عليهما على تنفيذه، وإلا فإنه يجب أن يرسلهما إليه. ولاشك في أنه له لم يقصد بذلك أن يفصل القائد في هذه الشكوى إذا لم يفلح الابيستاتس في مسعاه، لأن هذا القائد نفسه وقع على شكوى مماثلة وهي الشكوى التي قدمت ضد جمعية السيدات المصريات آنفة الذكر بأن يحاول الابيستاتس التوفيق بين الطرفين، وإذا لم يفلح فإنه يجب إرسال المدعي عليهن إلى القائد ليقدمهن إلى المحكمة المختصة. وإزاء ذلك يجب ألا يستخلص من التوقيعات التي تأمر بإرسال المتهمين أو المدعي عليهم إلى القائد أنه كان للقائد اختصاص قضائي.
(5) يطلب إلى الابيستاتس تقديم تقرير عن موضوع الشكوى. وقد وجد هذا التوقيع على ثلاث شكاوى من القرن الثالث نستطيع أن نتبين موضوع الخصومة في اثنتين منها. والشكوى في هاتين الحالتين هي من تصرفات داينياس (Deinias) الابيستاتس الذي طلب إليه القائد تقديم تقرير إليه عن الموضوع. ويبدو أن القائد، باعتباره كبير موظفي الإدارة في المديرية، هو الذي كان يفصل في هذه الشكاوى الإدارية على ضوء ما ورد فيها وفي تقرير الموظف المختص.
(6) إنابة شخص عن القائد لا شك في أنه كان أحد مرءوسيه. ويبدو أن كل الشكاوى التي تحمل هذا التوقيع كانت موجهة ضد أشخاص يعيشون في عاصمة المديرية. وموضع هذه الشكاوى يماثل موضوع بعض الشكاوى المختلفة التي مر بنا ذكرها وكانت ضد أشخاص يعيشون في أنحاء المديرية وإنما خارج العاصمة. وقد عرفنا أن القائد كان يضع على تلك الشكاوى أحد التوقيعات الخمسة سالفة الذكر ليتصرف الابيستاتس المحلي فيها وفقًا لتعليمات القائد. أما الشكاوى التي تحمل هذا التوقيع السادس، فإنها كانت خاصة بأشخاص يعيشون في العاصمة نفسها، ولذلك كان القائد ينيب عنه بعض مرءوسيه وذلك فيما يلوح للتصرف فيها. ويبدو طبيعيًا أن تصرفات هؤلاء الموظفين كانت لا تختلف عن تصرفات الابيستاتس في الحالات المماثلة. ولعل التوقيعات التي تحملها الشكاوى المحالة إليهم لم تبين لهم ما يجب اتباعه في كل منها، لأنهم كانوا من رجال مكتب القائد ويلمون بذلك جيدًا، بل لعلهم هم الذين كانوا يضعون التوقيعات على الشكاوى المرسلة للابيستاتس. ولذلك سنكتفي بذكر ملخص الشكاوى المحالة إلى هؤلاء الموظفين وذكر ما نيط بالابستاتس عمله في الحالات المماثلة، لنتبين من ذلك ما كان يجب على هؤلاء الموظفين عمله في الشكاوى التي كلفوا بالتصرف بها.
وموضع إحدى هذه الشكاوى أن المدعى عهد فيما يبدو إلى شخص يدعى هرموجنس بأن يتولى عند تسديد كمية معينة من الحبوب للإدارة المالية، لكن هرموجنس لم يقم بذلك، لأنه إما أخذ الحبوب لنفسه أو كان قد استدانها ولم يشأ سدادها. وعندما قدمت شكوى مماثلة من شخص يعيش في قرية فاربايثيوس بالفيوم، وضع عليها توقيع من النوع الأول، أي تكليف الابيستاتس بأن ينال صاحب الشكوى حقه وموضوع الشكوى الثانية خلاف بين أب طاعن في السن وابنته، لأنها تحت تأثير صديق هامت بحبه جننت بيمينها التي أقسمتها لأبيها بأن تمده بمعاش شهري، وعندما قدمت شكوى مماثلة من شيخ عاجز يعيش في إحدى قرى الفيوم، وضع عليها توقيع من النوع الثاني. أي تكليف الابيستاتس بمصالحة الطرفين على أن يرسل الطرف الثاني للقائد إذا فشل الابيستاتس في مسعاه، لكن هذا المسعى كلل بالنجاح. وموضوع الشكوى الثالثة هو أن إحدى عاهرات عاصمة مديرية الفيوم وضعت كمينًا لفتى غير راشد وأرغمته على توقيع صك بألف دراخمة، فقد أبوه شكوى بهذا المعنى لاسترداد الصك ومعاقبة المتهمين. وعندما قدمت شكوى من أحد أهالي إحدى قرى الفيوم لأن شخصًا زور اسمه على صك، وضع عليها توقيع من النوع الثاني، أي تكليف الأبيستاتس بمصالحة الطرفين، أما إذا لم يتيسر ذلك فكان يجب عرض الأمر على المحكمة المختصة، وكانت في تلك الحالة محكمة القضاة المصريين. أما في الشكوى المقدمة ضد العاهر فيبدو أن الطرفين كانا من الإغريق، ولذلك فإن المحكمة المختصة كانت محكمة القضاة الإغريق. وموضوع الشكوى الرابعة اعتداء بعض الناس على سقاء وعندما قدمت شكوى مماثلة من رجل يعيش في إحدى قرى الفيوم كلف الابيستاتس بمصالحة الطرفين، وإلا فإنه يفصل في الأمر وفقًا للقوانين.
وما سبب تعدد أنواع التوقيعات؟ بما أنه يبدو من الخط أن اليد نفسها كانت تخط توقيعات مختلفة في الوقت نفسه، فلابد إذن من استعباد الأثر الشخصي في نوع التوقيع. أكان تعدد أنواع التوقيعات يرجع إذن إلى اختلاف موضوع الشكاوى وأهميته، وتبعًا لذلك اختلاف المهمة التي يقوم بها الابيستاتس؟ لعل ذلك كان السبب الرئيسي. وليس أدل على صحة هذا التفسير من أن الشكاوى قد تشابه في الموضوع لكنها تختلف في قيمته فيختلف تبعًا لذلك نوع التوقيع، لأننا نلاحظ أن التوقيعات التي من النوع الأول كانت توضع على شكاوى خاصة بالمطالبة بمبالغ تافهة أو بأشياء زهيدة القيمة؛ والتي من النوع الرابع على شكاوى خاصة بمبالغ ليست قليلة؛ والتي من النوع الثاني على شكاوى خاصة بمبالغ كبيرة أو ببعض الاعتداءات؛ والتي من النوع الثالث على شكوى خاصة بجريمة. وبمقارنة ما ورد في الشكاوى وفي التوقيعات المختلفة يتضح وجود تشابه كبير بين ما طلب أصحاب الشكاوى إجراءه فيها وما أمر به القائد. ويبدو أنه قد كان أيضًا لمضي الزمن أثره في التعديلات التي أدخلت على تفاصيل صيغة بعض أنواع التوقيعات وخاصة التي من النوع الثاني. ومثل ذلك أن شكوى من العام الخامس والعشرين من عهد بطلميوس الثالث كان من الممكن أن تحمل توقيعًا يتطلب من الابيستاتس مصالحة الطرفين وإذا أخفق فإنه يرد الشكوى إلى القائد ليبحثها، على حين أن التوقيع على شكاوى مماثلة في تواريخ أخرى بعد ذلك العام كاي يتضمن أنه إذا لم ينجح الابيستاتس في مسعاه فإن الأمر بعرض على المحكمة المختصة أو يفصل فيه وفقًا للقوانين.
والآن يمكننا تحديد اختصاصات الابيستاتس المحلي في المركز أو القرية، وهو بطبيعة الحال غير ابيستاتس المديرية الذي رأيناه يرأس منذ القرن الثاني قبل الميلاد تلك المحاكم الهامة التي مر بنا ذكرها. لقد عرفنا أنه كانت ترسل إلى البيستاتس المحلي خمسة أنواع من التوقيعات من الجلي أن أولها ورابعها كانا خصين بالشكاوى التي أهمية موضوعها تافهة أو متوسطة. وقد كان الابستاتس يدرس هذه الشكاوى فإذا كان الادعاء صحيحًا واعترف به المدعى عليه، فإن الابيستاتس كان يرغمه على القيام بالتزماته. وتحدثنا وثائق من القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد بأن الابيستاتس أمر بسجن المدعي عليهم، لأنهم اعترفوا بما عليهم من الديون لكنهم عجزوا عن السداد. أما إذا أنكر المتهم فإن الابيستاتس كان يحيل الأمر إلى القائد ليحاول أيضًا فيما يبدو عمل ما فشل فيه الابستاتس أو يعرض الأمر على القضاء. ومعنى التوقيع الثاني أن يحاول الابيستاتس استخدام نفوذه لمصالحة المتخاصمين في منازعات خطيرة الشأن، وإذا لم يفلح في ذلك فإنه كان يحيل الأمر إلى القائد توطئة لتقديم القضية إلى المحاكم. أما التوقيع الثالث فيبدو أنه كان مقصورًا على الشكاوى الجنائية وكان دور الابيستاتس مقصورًا في هذه الحالة على إرسال المتهمين إلى القائد. أما التوقيع الثالث فيبدو أنه كان مقصورًا على الشكاوى الجنائية وكان دور الابستاتس مقصورًا في هذه الحالة على إرسال المتهمين إلى القائد. أما التوقيع الخامس فكان خاصًا بتقديم تقرير للقائد عن موضوع الشكاوى التي لها صبغة إدارية ويبدو إذن من كل ذلك أنه لم يكن للابيستاتس اختصاص قضائي بالمعنى الصحيح، فإنه لم تكن له سلطة الفصل حتى في أتفه الشكاوى إلا إذا كان حق المدعى واضحًا إلى حد كان لا يسع المتهم إزاءه إلا أن يعترف به. وعندئذ فقط كان الابيستاتس يستطيع إرغامه على القيام بالتزماته. ولعله كان يساعد على ذلك مركز الابيستاتس وقوة الحجة ضد المدعي عليه كوجود شرط جزائي في العقد كان المدين الذي لا يسدد دينه يعتبر بمقتضاه مدانًا مقدمًا دون محاكمة. أ:و وجود وثيقة صحيحة لا يمكن الطعن فيها والرغبة في توفير تكاليف الانتقال إلى العاصمة للفصل في القضية دون أمل في الحصول على حكم في مصلحته. فكان من الأوفق أن يعترف المدعي عليه للابيستاتس ويكفي نفسه شر النزاع. أما إذا أ،كر المدعي عليه بالرغم من كل ذلك، فإنه لم يكن في وسع الابيستاتس أن يفعل شيئًا أكثر من إحالة الأمر إلى القائد.
ومع ذلك لم يكن الدور الذي يقوم به الابيستاتس يذهب عبيثًا حتى إذا أنكر المتهم الدعوى أو فشل في مصالحة الطرفين، وذلك لأنه عند استدعاء الطرفين لديه كان يحرر محضرًا يدون فيه الحجج الرئيسية التي يدلي بها الطرفان في تأييد وجهة نظر كل منهما. وكان يضم إلى كل ذلك ما تصل إليه يده من الأدلة ثم يرفق كل ذلك بالشكوى عند ردها إلى القائد وبذلك يسهل عليه عمله.
وما كان هذا العمل يقوم به القائد في هذا الصدد؟ أكان يستوفى التحقيق ويفصل نهائيًا ولو في حالات معينة على الأقل؟ أم هل كان يستوفى التحقيق ويحاول مصالحة الطرفين وإذا لم يفلح فإنه كان يعرض الأمر على القضاء؟ أو بعبارة أخرى هذا كان للقائد اختصاص قضائي بأدق معاني الكلمة أم لا؟ بما أن الكل يسلم بأن المحاكم كانت مختصة بالفصل في القضايا المدنية على الأقل، فلابد إذن من أنه لم يكن للقائد اختصاص قضائي مدني في الأحوال العادية. فهل كان له إذن اختصاص قضائي ثلاث حجج: أحداها أن الشاكين كانوا يذكرون في شكاويهم أنهم يعتمدون على تدخل القائد لتحقيق العدالة، ويستبعد أصحاب هذا الرأي أن الشكاين كانوا يجهلون جهلاً تامًا الإجراءات القضائية الصحيحة. وحسبنا لتنفنيد هذه الحجة أن إحدى الشكاوى التي وردت فيها عبارة مماثلة وقع عليها القائد بأن يحاول الابستاتس مصالحة الخصوم وإلا فإنه يجب عرض الأمر على محكمة القضاة المصريين. أما الحجة الثانية فهي أن القائد كان يطلب أحيانًا إلى الابيستاتس أن يحاول مصالحة الطرفين، وإلا فإنه يجب رد الشكوى إليه لبحثها. ويقال لنا أن المقصود بذلك هو بحثها والفصل فيها ولم يكن مجرد تحقيقها، لأن الابيستاتس قد قام بذلك وأرسل تقريرًا بما عمله. لكنه يقوض دعائم هذه الحجة معولان: أحدهما أن القائد كان يستخدم للتعبير عن بحثه نفس الكلمة (episkepsathai) التي كان يستخدمها عندما يطلب إلى الأبيستاتس في توقيع من النوع الأول بحث شكوى، ولم يستخلص أحد من ذلك أن الابيستاتس كان يبحث الشكاوى ويملك حق الفصل فيها، فكيف يمكن التسليم بذلك ثم تحميل الكلمة التي تعبر عن بحث القائد معنى لا تنم عليه أو أكثر مما اتفق عليه عندما تعبر عن بحث الابيستاتس؟ والآخر هو أن تلك الشكاوى التي كان يتبع فيها ذلك، كانت خاصة بقضايا مدنية كالتي كانت المحاكم على اختلاف أنواعها تفصل فيها. وهل يبعد أن بحث القائد كان يراد به التأكد من أن الابيستاتس قد استوفى التحقيق تماماً وأرفق بالشكوى كافة الأدلة؟ أما لحجة الثالثة فهي ما ورد في وثيقتين بصدد الكلام عن جريمة ضرب من أن القائد قد استدعى المتهمين وعاقبهم. لكننا لا نعرف ماهية هذا العقاب، ولا يوجد ما يثبت أن القائد قد فعل ذلك بعد إجرائه محاكمة صحيحة وأصدار حكم قانوني. وهل يبعد أن يكون القائد لم يفعل أكثر من تنفيذ حكم أصدرته محكمة مختصة أو أن يكون قد تجاوز اختصاصه مستغلاً سلطته ونفوذه؟ وإذا قيل كيف يكون للقائد اختصاص جنائي ونحن نعرف أن القضايا الجنائية كانت تعرض على المحاكم، فإن البعض يجيب بأن هذا لا ينهض دليلاً على اختصاص المحاكم بالفصل فيها، إذ يحتمل أنها لم تعرض عليها إلا للفصل في الجانب المدني فقط، أما الجانب الجنائي فكان من اختصاص القائد. وهذا رأي عجيب لأنه في القضايا التي تتألف من شقين أحدهما مدني والآخر جنائي يتعين الفصل أولاً في الشق الجنائي ليمكن تحديد المسئولية المدنية، ولو كان للقائد اختصاص جنائي، كما يظن البعض، لفصل في الجانب الجنائي من القضية قبل إحالتها إلى المحكمة المختصة بالجانب المدني.
يتبقى بعد ذلك رأي وسط، مؤداه أن القائد كان يفصل في القضايا في خلال الفترة التي كانت المحاكم لا تنعقد فهيا. ويستند هذا الرأي إلى العبارة التالية التي ذكرها زينون في إحدى وثائقه: "وفيما يختص بمثل هذه الأحوال أظن أنه من حق القائد الفصل فيها مادامت المحكمة غير منعقدة في مديرية ارسينوي". لكن عبارة زيتون لا تنم عن التوكيد، ولذلك فإنها لا تنهض دليلاً قاطعًا على أنه كان للقائد اختصاص قضائي، ولاسيما أنه لا يمكن اتهام شخص مثل زيتون بالجهل. ومن ناحية أخرى لقد رأينا أن قضايا الإغريق كانت تنظر في الإسكندرية في خلال فترة عدم انعقاد محاكمهم في الأقاليم، فهل كان القائد إذن يفصل في قضايا المصريين فقد في خلال فترة عجم انعقاد محاكمهم، أم أنه كان أمام الإغريق أحد أمرين أما الذهاب إلى الإسكندرية أو الاحتكام إلى قضاء القائد إذا شاءوا؟ إذا جاز ذلك فيما يخص لإغريق فإنه لا يجوز فيما يخص المصريين لأنه كان يجب محاكمتهم وفقًا لقوانينهم، على حين أن القواد كانوا عادة من الإغريق حتى أواخر عهد البطالمة ولا ينتظر إلمام القواد بالقوانين الفرعونية إذا صح أنهم كانوا يلمون بالقوانين الإغريقية. وعلى كل حال يجب ألا ننسى أنه كان للقائد اختصاص قضائي في الأحوال التي تدخل في نطاق القضاء الخاص، فهل كانت اختصاصاته القضائية تتسع في خلال الفترة التي لا تنعقد فيها المحاكم الإغريقية؟ هذا محتمل وإن كان غير مؤكد، ومع ذلك إذا جاز هذا في القرن الثالث فإنه في رأينا غير جائز حتى فيما يخص قضايا الإغريق منذ القرن الثاني، لاعتقادنا أن محكمة الابيستاتس قد أنشئت لتلافي هذا النقص.
إزاء كل ذلك يمكن القول بأنه إلى جانب اختصاص القائد القضائي في القضاء الخاص لم يكن له اختصاص قضائي في الأحوال العادية إلا فيما يظن في خلال الفترة التي كانت المحاكم الإغريقية لا تنعقد فيها، وذلك فقط إلى أن أنشئت محكمة الابيستاتس. أما فيما عدا ذلك فيحتمل أن القائد كان يستوفى التحقيق توطئة لعرض الأمر على المحاكم المختصة إذا فشل السعي في التوفيق بين المتخاصمين وإنهاء النزاع وديًا.
إن سبب المناقشات الطويلة والجدل العنيف فيما إذا كان للمحاكم اختصاص مدني وجنائي أم أن اختصاصها كان مدنيًا فحسب واختصاص القائد جنائيًا ، هو وجود شكاوى كثيرة ذات طابع جنائي أرسل بعضها إلى القائد وذكر فيها أصحابها أنهم ينتظرون منه وضع الأمور في نصابها وأرسل البعض الآخر إلى أشخاص آخرين من رجال الإدارة أو لشرطة ومع ذلك فإننا لا نعرف في أغلب الحالات الهيئة التي فصلت في هذه القضايا. ومثل ذلك أن شخصًا يدعى هراس (Heras) من سكان كركيوسيريس كان متهمًا في جناية قتل، وقبل موعد محاكمته كلف كاتب قريبه بإبلاغه التهم الموجهة إليه وبالتنبيه عليه بالذهاب إلى عاصمة المديرية في ظف ثلاثة أيام للفصل في الأمر، كما كلف الكاتب أيضًا بحصر أملاك المتهم وتقدير قيمتها والاستيلاء عليها. وقد قام كاتب القرية بما كلف به، لكننا لا نعرف الهيئة التي فصلت في القضية ولا الحكم الذي صدر فيها. وجلى أن المتهم في هذه الجناية الخطيرة لم يكن مقبوضًا عليه، لكن ليس معنى ذلك أن الحبس الاحتياطي أو التحفظي لم يكن معروفًا. ولعل هذا المتهم لم يخل سبيله بعد وقوع الجريمة إلا بكفالة أو بضمان أشخاص معروفين، فإننا نعرف مثلاً أنه عندما أمر رئيس شرطة كركيوسيريس بالقبض على لشخص يدعى الكيموس لاتهامه في جريمة تقدم لضمانه شخصان من طبقة فرس السلالة وتعهدًا بحضوره للمحاكمة في ظرف خمسة أيام من إبلاغهم جميعًا بذلك، وإلا فإنهما يقدمان للمحاكمة بدلاً منه ويدفعان كذلك للخزانة العامة غرامة قدرها أربع دراخمات بالعملة الفضية. وقد كان الإرفاج بضمان من هذا النوع معروفًا أيضًا القضايا التي يصدر فيها حكم بالسجن، وأقدم مثل لذلك يرجع إلى عصر بطلميوس الثاني. وربما كان الاستيلاء على أملاك هراتس المتهم في جريمة القتل تمهيدًا لمصادرتها في حالة الحكم بالإدانة، جرياً على العادة المتبعة في العصور القديمة. ويبدو أن رجال الإدارة كثيرًا ما كانوا يسيئون استغلال سلطتهم في إلقاء القبض على الناس أو مصادرة أملاكهم، مما حدا ببطلميوس التاسع على نحو ما مر بنا أن يحظر في عام 109/108 على سائر الموظفين أن يقبضوا على أحد أو يصادروا أملاكه دون أمر من المحكمة.
وذات يوم ذهب رجل يدعى هارووتس (Haruotes) إلى معبد إيزيس في كركيوسيريس، فاحتك به شخص يدعى حورس ثم أوسعه سبًا وقذفًا وبعد ذلك أنهال عليه ضربًا بعصاه إلى حد هدد حياته، فقدم هارووتس شكوى بهذا المعنى إلى كاتب قريته ليرفعها إلى الموظفين المختصين. ويقول هارووتس أنه قد بادر إلى تقديم شكواه إثباتًا لما حدث فلا يفلت المتهم من العقاب إذا أودى الأذى بحياته.
وعندما اعتدى رجل يدعى أبوبودوروس وابنه المسمى مارون على بومون ابستاتس قرية كركيوسيريس، ألقى القبض على مارون وأرسل إلى القائد في اليوم نفسه، أما الأب فإنه هرب ولسبب لا نعرفه أبلغ كاتب القرية كل ما حدث إلى رئيس الكاتب الملكي. وفي الشهر نفسه الذي وقع فيه الحادث الأول اقتحم هذا الأب وابنه بيت بتسوخوس ابن ابيستاتس هذه القرية شاهرين سيفيهما وسرقا ثماني دراخمات من العملة الفضية، فقدم المجني عليه شكوى بذلك قام كاتب القرية بإبلاغها إلى الكاتب الملكي الذي وقع عليها بما يأتي: "تحول إلى أصحاب الاختصاص لإلقاء القبض على المتهمين وإنزال العقاب الملائم بهما.
إن الأمثلةمتعددة وليس ثمة ما يدعو إلى استعراضها جميعًا وإذا كنا لا نعرف شيئًا عن الهيئات التي فصلت في الجانب الأكبر من القضايا الجنائية التي وصلنا خبرها، فقد سبق أن أشرنا إلى عرض أو العزم على عرض قضايا ذات طابع جنائي على محاكم القضاة المصريين ومحاكم القضاة الإغريق والمحكمة المختلطة، بل كذلك بعض محاكم القضاة الخاص مثل القضية التي أتهم فيها منخس بالشروع في قتل بعض الأفراد وقضت المحكمة بتبرأته. وإذا كنا نعرف ذلك ونعرف أيضًا أنه لم يقم أي دليل على وجود محاكم خاصة للفصل في القضايا الجنائية، فلابد إذن من أن اختصاص المحاكم لم يكن مدنيًا فحسب كما يزعم البعض بل كان جنائيًا أيضًا. وإذا كنا نعرف أن الإدانة في القضايا الجنائية كانت تستتبع مصادرة أملاك المتهمين، ونعرف ما أمر به بطلميوس التاسع للحد من عبث الموظفين بألا تصادر أملاك أحد إلا بأمر المحكمة، فهل يعوزنا بعد ذلك دليل على أن الفصل في القضايا الجنائية كان من اختصاص المحاكم ولم يكن عادة من اختصاص القائد؟
ويبدو أنه قد طرأت منذ القرن الثاني بعض التغييرات على الإجراءات القضائية، فقد عرفنا أنه في القرن الثالث كانت الشكاوى توجه دائمًا للملك، إلا أنها كانت تقدم أما إليه أو إلى المحاكم أو إلى قواد المديريات، وكان الملك ينيبهم عنه في التوقيع على الشكاوى. أما منذ القرن الثاني فقد كانت الشكاوى لا توجه إلى الملك إلا إذا قدمت إليه فعلاً، لأننا لا نجد توقيعًا لقائد على شكوى موجهة للملك، مما يدل على شيئين وهما: أن مثل هذه الشكاوى كانت تقدم فعلاً إلى ديوان الملك، وأن القواد لم يعد لهم حق النيابة عن الملك في التوقيع على الشكاوى الموجهة إليه. وقد كان الهيبومنيما توجرافوس، فيما يبدو، هو الذي يقوم عندئذ بما كان يقوم به القائد في القرن الثالث. لكنه كان يمكن أيضًا توجيه وتقديم الشكاوى إلى القواد، وكذلك سائر الموظفين مع التماس رفعها إلى أصحاب الاختصاص، على نحو ما رأينا في شكوى هارووتس، وفي القرن الثاني كان يمكن أيضًا تقديم الشكاوى مباشرة للمحاكم الإغريقية، وفيما يبدو كذلك للمحاكم المصرية. ولعل هذه الشكاوى هي التي كانت تودع في صناديق الشكاوى، التي أقيمت لهذا الغرض في عواصم المديريات. ويجب ألا يظن أن هذه الصناديق كانت من الكثرة بحيث يلقاها الإنسان عند قمة كل شارع، فإنه لم يرد لها ذكر في وثائق القرن الثاني إلا مرتين.
ومنذ القرن الثاني لم تعد الشكاوى تحتفظ بتلك المميزات المادية التي عرفنا أنها كانت تميزها في القرن الثالث. وكانت الشكاوى التي تقدم للملك لا تكتفي بذكر اسمه فحسب بل كانت تشفعه بلقبه المقدس لكنها كانت لا تذكر عادة في القسم الأول العبارة المألوفة "لقد أضر بي (فلان)"، ولا تشمل القسم الثالث الذي يذكر أن أنصاف صاحب الشكوى يثبت عدالة الملك وحسن طويته وسهره على رعيته. ويلاحظ كل هذا النقص أيضًا في الشكاوى المقدمة للقواد وغيرهم من الموظفين، هذا إلى أنها كانت خلوًا من التحية التي تأتي في المقدمة. ويعتقد البعض أن هذه التغييرات قد طرأت فجأة بأمر أحد البطالمة في أواخر القرن الثالث ولعله بطلميوس الرابع، لكن اختفاء بعض مميزات شكاوى القرن الثالث من وثيقة معاصرة لمعركة رفح، التي كانت نقطة التحول في كثير من نواحي تاريخ البطالمة، قد يشير إلى أن هذه التغييرات في صيغة الشكاوى قد حدثت تدريجيًا.
وليس هناك ما يستدل منه على أنه قد أدخل على الإجراءات القضائية شيء آخر فيما عدا هذه التعديلات الطفيفة.
وعند إحالة القضايا إلى المحاكم المختصة وحضور طرفي الخصومة جلسة المحكمة كانا يطلبان اثبات حضورهما، وفي حالة تغيب أحد الطرفين كان خصمه يطلب إثبات ذلك. وكان من الممكن إنابة آخرين عن طرفي الخصومة، لكنه كان يتعين الحصول على موافقة المحكمة على إنابة شخص عن آخر في الشئون القضائية، على حين أن حضور الزوج نيابة عن زوجته كان أمراً يستوجبه القانون.
وعند نظر القضية، كان أول ما يمكن إثارته الاعتراض على اختصاص المحكمة بنظر القضية، أو كما نرى في حالة محكمة العشرة، الاعتراض على تشكيل هيئة المحكمة، أو على عدم تمثيل طرفي الخصومة تمثيلاً وافيًا بالغرض. وكان نجاح أي اعتراض من هذه الاعتراضات كفيلاً بوقف سير الدعوى. وعند البدء في نظر الدعوى كان يمكن إنهاء النزاع قبل الدخول في تفاصيل القضية إما بالمصالحة بناء على رغبة طرفي الخصومة أو توصية المحكمة ـ أو باعتراف المدعي عليه بصحة الدعوى، أو بحلف اليمين على بطلانها. ولما كان الاعتراف هو سيد الأدلة، وكان اعتراف المدعي عليه بصحة الدعوى أمام قائد المديرية أو رئيس الشرطة أو الابيستاتس المحلي يؤدي فورًا إلى إلزامه برد الحق إلى صاحبه، فإن الرأي السائد اليوم هو أن المحاكم أيضًا كانت تأخذ بهذا المبدأ. ولإنهاء النزاع سريعًا كان يتبع الإجراء الذي قضى به قنانون بوكخوريس، فإنه وفقًا لهذا القانون كان على المدين الذي ينكر دينه إما أن يحلف اليمين على صحة إنكاره أو يدفع دينه. ويبدو أن هذا الإجراء كان متبعًا في حالات أخرى غير الدين.
وإذا لم يحسم النزاع سريعًا بطريقة من الطرق سالفة الذكر، فإنه بعد قيام صالح الدعوى بشرح دعواه والتقدم بمطالبة وقيام المدعي عليه بالرد على ذلك، كانت المحكمة أما تحجز القضية للحكم أو تعين حكمًا أو حكمًا ووسيطًا للفصل في النزاع. وكان رئيس المحكمة يسيطر على كل ما يجري في الجلسة، وكان على طرفي الخصومة احترام أوامره ونواهيه، فكان يسمح بتقديم الأدلة ويتولى فحصها، ويأذن لأحد الطرفين بالكلام أو يمنعه من ذلك، ويأمر بتأجيل نظر القضية إذا رأى موجبًا لذلك مثل وقت المحصول أو بذر البذور أو لتقديم الأدلة. وقد كانت للأدلة المكتوبة أهمية جوهرية.
وكان القضاة لا يقيدون فقط من المعلومات القانونية التي كان يقدمها طرفا الخصومة أو ممثلوهما والدفاع، بل كان من الممكن أيضًا أن يرجعوا إلى خبراء الحكومة في القانون لاستطلاع الرأي في المشاكل القانونية، وكذلك أن يستعينوا بمختلف أنواع الخبراء من أطباء ومحاسبين ومعماريين وغيرهم. ويحتمل أن القضاة كانوا يحتفظون بنصوص القوانين لمراجعة المقتطفات القانونية التي كان طرفا الخصومة يستندان إليها.
وكانت الأدلة هي الأساس هي الأساس الذي تبنى عليه المحكمة حجمها. وكان الحكم إما يقرر حق صاحب الدعوى وفقًا لطلباته ويقضي بالتنفيذ أو يحرر المدعي عليه من التزماته. وكان الحكم يتلى في المحكمة وبذلك يخطر به طرفا الخصومة. وقد مر بنا أن أحكام محاكم القضاة المصريين في القضايا المدنية كانت لا تعتبر فاصلة في الدعوى إلا إذا صحبها تحرير عقد تنازل، وأن القانون الإغريقي قد تأثر فيما يبدو بهذا المبدأ، وأنه كان يمكن أيضًا فيما يبدو استئناف الأحكام، ومن ثم فإن تنفيذ الحكم الصادر من إحدى المحاكم كان يتوقف على كل هذه الاعتبارات. بقى أن نذكر كلمة أخيرة عن مصاريف القضاء. ويتصل بهذا الموضوع ضريبتان تسمى إحداهما "ضريبة المساعدة القضائية" (Synegorikon) و"ضريبة العشور الإضافية" (epidekaton). ولم تذكر الضريبة الأولى إلا نادرًا وبعبارات غامضة لا نستطيع أن نستقى منه الغرض من جباية هذه الضريبة، إلا أننا نعرف من وثيقتين من مصر العليا من القرن الثاني أنه كان يلتزم هاتين الضريبتين ملتزم واحد ونجد في إحدى هاتين الوثيقتين الملتزم يعطى إيصالاً عن الضريبة الثانية لمتهم رأى أن يتفق مع خصمه قبل الفصل في القضية. ويرى فيلكن، الذي درس بإفاضة المعلومات الطفيفة الخاصة بهذا الموضوع، أنه لما كان هذا المتهم لم يدفع الضريبة الأولى فلابد من أنه لم يكن له محام، لكن ماذا يمنع من أن يكون هذا المتهم قد دفع هذه الضريبة وقت اتفاقه مع المحامي مثلاً؟ ويرى فيلكن أيضًا أنه لما كانت هذه الضريبة لا تدفع للمحامين وإنما يجبيها أحد ملتزمي الدولة فلابد من أن مهنة المحاماة كانت تحت إشراف الحكومة. ومعنى ذلك أن هذه الضريبة كانت أتعاب المحاماة، وأن الحكومة كانت تعني بجبايتها لتأخذ جانبًا منها وتعطى الجانب الآخر للمحامين. ويبدو لنا أن هذا إسراف في التفسير لا يوجد ما يبرره، فإن كل ما نعرفه عن تدخل الحكومة في شئون المحامين هو أنها كانت تحظر عليهم المرافعة ضد مصالح التاج كما سبق القول. وإذا كنا نفهم أنها كاكنت تفرض على المحامين ضريبة نظير مزاولتهم مهنتهم، وأنها كانت تفرض على الأهالي ضريبة نظير الانتفاع بخدمة أشخاص سمحت لهم الحكومة بأداء هذه الخدمة للأهالي، فإننا لا نفهم أن حكومة البطالمة، مهما بلغ جشعها وحرصها على جمع المال، قد ذهب بها الشطط إلى حد مقاسمة المحامين أرباحهم على هذا النحو الذي يبدو من بين ثنايا رأي فيلكن.
ومما يجدر بالملاحظة أنه لم يرد لهذه الضريبة ذكر إلا بمناسبة قضية عرضت أمام محكمة القضاة الإغريق، وبطبيعة الحال لا يجوز أن نستخلص من ذلك أن المصريين كانوا محرومين في عهد البطالمة من استخدام محامين أمام محاكمهم المصرية، على نحو ما كانت الحال في عهد الفراعنة، ولاسيما أنه يبدو من الوثائق الديموتيقية الخاصة بإحدى قضايا المصريين في القرن الثاني قبل الميلاد أنه كان لأحد الطرفين محام. ومعلوماتنا أوفى عن الضريبة الثانية، فهي معروفة لنا من وثائق القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد. ويبدو أنه عند بداية القضية كان الطرفان يودعان 10/1 أو 15/1 من المبلغ المتنازع عليه. لكن هذه الضريبة كانت لا تدفع في حالة القضايا المدنية فحسب بل كذلك في حالة القضايا الجنائية أيضًا، ولاشك في أن التقدير كان عندئذ على أساس مبلغ التعويض الذي يطالب به المدعي. وكان الشخص الذي يخسر القضية هو الذي يتحمل هذه الضريبة. وقد مر بنا أن المتهم الذي يتصالح مع خصمه قبل الفصل في القضية كان أيضاً يتحمل هذه الضريبة. ونعرف من حالتين أن الملتزم نفسه هو الذي كان يعطي إيصالاً بسداد هذه الضريبة.
ولعل ما كانت الحكومة تتقاضاه لم يكن لسد كل تكاليف القضاء البطلمي، وإنما لسد جانب واحد فقط مثل مصاريف استدعاء الشهود وتحرير الوثائق، ولذلك يبدو أن القضاء البطلمي كان من ناحية المبدأ دون مقابل. | |
|