القضاء الإغريقي أو محاكم القضاة الإغريقي[/align]
ومن حسن الحظ أن معلوماتنا عن محااكم القضاة الإغريق أوفى منها عن محاكم القضاة المصريين، ومع ذلك فإنه ينقصنا الشيء الكثير عن اختصاص هذه المحاكم الإغريقية المتنقلة، التي يعزى انشاؤها إلى بطلميوس الثاني، لتنوب عن الملك في الفصل في قضايا الإغريق وغيرهم من النزلاء الأجانب في مصر. ويبدو أن مهمة هؤلاء القضاة الإغريق (Chrematistai) لم تكن مستديمة، ولذلك فإنهم لم يكونوا موظفين يقضون حياتهم العملية في مناصبهم القضائية، بل يرجح أنهم كانوا أفرادًا من نزلاء البلاد يعهد الملك إليهم بمهمة الفصل في القضايا لمدة معينة لا نعرف مداها على وجه التحديد. وترينا الوثائق أن كل هيئة من هذه الهيئات القضائية الإغريقية كانت تتألف من ثلاثة قضاة، وأنه كان يتم تكوين كل هيئة وجود مدع عام (eisagogeus) وكاتب (grammateus) ومحضر (hyperetes).
وقد كانت للمدعي العام أهمية كبيرة حتى أن البعض ذهب "إلى حد اعتباره رئيس المحكمة، على حين أنه لم يكن كذلك وإن كانت له أهمية كبيرة، فقد كانت تمر بين يديه كافة الالتماسات والوثائق المقدمة إلى المحكمة، ويدعو المحكمة للانعقاد، بل يبدو أنه كان أيضًا يوقع الأحكام التي تصدرها. وكان كذلك يمثل المحكمة في فترات انعقادها وتعرف هيئة المحكمة باسمه، فنرى شخصًا يدعى أبولونيوس يقدم شكوى إلى بطلميوس الثامن ويلتمس تحويلها إلى محكمة القضاة الإغريقي المختصة بنظر القضايا الثامن ويلتمس تحويلها إلى محكمة القضاة الإغريق المختصة بنظر القضايا في المنطقة الممتدة من بالوبوليس إلى أسوان، والتي يمثل الدعوة العامة من الأهمية، إلا أنها تثبت أيضًا أنه لم يكن رئيس المحكمة. ولعل اسمه كان معروفًا لدى الناس، لأنه كان موظفًا مستديمًا على عكس القضاة أنفسهم. ويبدو أن هذا الموظف كان يشرح أركان الدعوة، ولا يترك للقضاة إلا مهمة إصدار الحكم الذي يتفق مع ذلك.
ولدينا وثيقة أخرى هامة، وهي عبارة عن إهداء مرفوع للملك بطلميوس السادس وزوجه كليوبترا الثانية. ونجد في هذه الوثيقة أن أسماء القضاة قد ذكروا أولاً، ثم أعقب ذلك ذكر باقي أعضاء المحكمة بحسب أهمية كل منهم، مما لا يدع أي مجالس للشك في أن المدعي العام لم يكن رئيس المحكمة. وتحدثنا هذه الوثيقة أيضًا بأن الإهداء مقدم من القضاة الثلاثة هيراكليون ونيكوستراتوس وأريوس، الذين أدوا عملهم في خلال العام الثامن والعام التاسع من حكم بطلميوس السادس (174/173 -173/172) في مديرية بروسوبيس والمديريات الأخرى المخصصة لهم. وهذا يدل على أنم حكمة القضاة الإغريق كانت تتألف من ثلاثة قضاة وتختص بنظر قضايا منطقة تشمل عددًا معينًا من المديريات الأخرى المخصصة لهم.
وهذا يدل على أن محكمة إغريقية أخرى كانت تختص بنظر القضايا في منطقة واسعة تمتد من بانوبوليس حتى أسوان، وتؤلف جانبًا كبيرًا من منطقة طبية. وكانت كل محكمة تنتقل في أرجاء منطقتها للفصل في قضاياها، لكننا نستبعد أنها كانت تذهب إلى كل بلد وقرية لهذا الغرض. ولعل الأرجح أن المحكمة كانت لا تنعقد إلا في عواصم المديريات المختلفة والمدن الكبيرة. وهل كان تقديم هذا الإهداء بمناسبة انتهاء القضاة من عملهم، أي في نهاية المدة التي عهد إليهم بتصريف العدالة فيها؟ هذا محتمل، ولكنه لا ينهض دليلاً قاطعًا على أن مهمة القضاة كانت تحدد عادة بفترة طولها عامان.
وكانت "محكمة القضاة الإغريق" لا تنعقد في عواصم المديريات فقط بن كذلك في مدن إغريقية مستقلة مثل الإسكندرية وبطوليميس. ولا يبعد أن الغرض من انعقادها هناك كان الفصل في قضايا إغريق المديريات القريبة من تلك المدن وكذلك إغريق تلك المدن الذين لم يكونوا في عدد مواطنيها. وأما الفصل في قضايا مواطني تلك المدن، فقد كان من اختصاص محاكمها المستقلة. وفي سياق الحديث عن الإسكندرية وبطوليميس، أوردنا كل ما نعرفه عن القضاء في هاتين المدينتين. وإذا كنا نسلم بوجود "محكمة القصر" أو محكمة الملك في عهد البطالمة، فإننا لا نعرف كيفية تكوينها، ولا هل كانت للاستئناف من أحكام القضاة المصريين فقط. أم كانت أيضًا للاستئناف من أحكام المحاكم الإغريقية على اختلاف أنواها، أم هل كان لا يتمتع بحق الاستئناف إلا مواطنو المدن الإغريقية فقط. وإذا كانت لدينا ولو بعض المعلومات الطفيفة عن القضاء في الإسكندرية وبطوليميس، فإننا لا نعرف شيئًا على الإطلاق عن القضاء في نقراطيس، لكننا لا نستبعد أنه كان على غرار القضاء في هاتين المدينتين.
وليس تحديد اختصاص محاكم القضاة الإغريق بالأمر اليسير، بسبب قلة ما لدينا من المعلومات عنها. أن الذين يرون أن اختصاص المحاكم المصرية كان مدنيًا فقط يرون أن اختصاص المحاكم الإغريقية كان كذلك أيضًا، هناك إذن نقطة لا جدال فيها، وهي أن هذه المحاكم كانت تفصل في القضايا المدنية. أما موضع الجدل فهو أكان اختصاصها يشمل القضايا الجنائية أيضًا؟ نحن نميل إلى هذا الرأي، لأننا لا نجد أي دليل على وجود محاكم خاصة بالفصل في القضايا الجنائية، ولأننا نستبعد أنه كان يوجد في عصر البطالمة محاكم مدنية بحث وأخرى جنائية بحث. ويؤيد ما نذهب إليه أننا سنرى عند الكلام عن قضية هرمياس المشهورة أن المدعي قدم قضيته المدنية إلى المحكمة الإغريقية، لكنه كانت له شكوى أخرى وهي اعتداء خصومه عليه، ولذلك نراه يتوعد خصومه بأنه بمجرد استرداد حقوقه سيتقدم إلى نفس المحكمة بشكوى أخرى خاصة بهذا الاعتداء.
ويتبين من الوثائق أنه في القرن الثاني قبل الميلاد امتد اختصاص هذه المحاكم إلى القضايا التي تمس صوالح الخزانة العامة، وذلك بالرغم مما تحدثنا به الأوامر الملكية من أن مثل هذه القضايا لم تكن من اختصاص المحاكم العادية، إغريقية كانت أو مصرية، وإنما من اختصاص هيئات قضائية سيأتي ذكرها عند الكلام عن القضاء الخاص. بيد أنه عند نظر محاكم القضاة الإغريق هذا النوع من القضايا كان يرأسها أحد رجال الإدارة المالية مثل الكاتب الملكي أو الابيمليتس.
ومن أهم القضايا، التي وصلت إلينا أنباؤها ونعرف أنها عرضت على محكمة القضاة الإغريق، قضية هرمياس المشهورة ضد جماعة من المصريين كانوا يحترفون مهنة تقديم القرابين للموتى (Choachytes) في طيبة. ويمكننا تتبع الأدوار التي مرت بها هذه القضية منذ البداية حتى عام 117 ق.م. بفضل مجموعة الوثائق المحررة باللغتين المصرية والإغريقية التي وجدها بعض الأعراب في إناء من الفخار حوالي عام 1820 لكنهم لم يبيعوها جملة واحدة وإنما على دفعات لأشخاص مختلفين، ولذلك نجد هذه الوثائق موزعة بين متاحف أوربا.
وترجع بداية حوادث هذه القضية إلى بداية عهد بطلميوس الخاسم، عندما اندلع لهيب الثورة في منطقة طيبة وأرسلت الفرق الملكية إلى الحدود الجنوبية، واعتدى على الأجانب المقيمين في مدينة طيبة بل يبدو أنهم طردوا منها.
وقد كان من بين حامية طيبة شخص يدعى بطلميوس، كان قد تزوج حفيدة رجل يدعى هرمون بن هرمياس. وعندما قامت الثورة، هجر بطلميوس بيتًا وقطعة أرض كان يملكهما في طيبة عن طريق زوجته، ولم يعن بعد ذلك بسكنى هذا لمنزل الذي دمر وتهدم. ومن الحتمل أن يكون قد استقر مع زوجته في كوم أمبو، حيث نلقي فيما بعد ابنه هرمياس أحد ضباط فرسان حاميتها.
وقد مرت السنين تباعًا دون أن يهتم بطلميوس بما يملكه في طيبة، فاعتقد أقاربه أنهم يستطيعون اقتسام هذه العين، ومن ثم انتقلت ملكيتها مرات عديدة بالميراث والبيع، إلى أن بيع هذا الإرث آخر الأمر جزءًا فجزءًا إلى إحدى الأسر المصرية التي كانت تشتغل بتقديم القرابين للموتى وعندما أصبحت كل الأرض تقريبًا ملك هؤلاء المصريين، أعادوا بناء البيت وزاولوا مهنتهم فيه. وعندئذ علم هرمياس ابن بطلميوس بما حدث لإرثه فأفلح في إلغاء إحدى صفقات البيع الأخيرة، وكانت قد بيعت بمقتضاها قطعة صغيرة من الأرض إلى أحد كهنة آمون. وقد استرد هرمياس هذا الجزء من إرثه برفع قضية أمام محكمة القضاة الإغريق، وتقديم إشهاد من الكاتب الملكي يفيد بأنه بناء على المعلومات التي قدمها كاتب المركز وكاتب القرية كانت قطعة الأرض المذكورة مسجلة في سجل الأراضي "باسم هرمون ابن هرمياس جد والدة هرمياس". واكتفى هرمياس مؤقتًا باسترداد هذا الجزء من إرثه ولم يحاول عندئذ طرد المصريين من المنزل.
وفي عام 127 ق.م. أثار الموضوع من جديد أبولونيوس، أحد أقارب هرمياس، فإنه ذهب إلى المصريين المقيمين في المنزل يطالبهم بنصفه، لكنهم أوسعوه ضربًا فلم يشجعه ذلك على معاودة مطالبتهم. وبعد صمت دام عشرة أشهر، وجه شكوى إلى الملك حسب التقاليد المتبعة لتنتظرها "محكمة القضاة الإغريق الذين يفصلون في قضايا منطقة طيبة بأجمعها". ولما كانت المحكمة الإغريقية منعقدة أو على وشك الانعقاد عندئذ في مدينة بطوليميس، فإن أبولونيوس أودع شكواه في صندوق (angeion) هذه المدينة المخصص للشكاوى المقدمة إلى محكمة القضاة الإغريق. وفي الوقت نفسه توعد المصريين بأنه بمجرد الحكم له باسترداد نصيبه المذكور، فإنه سيتقدم إلى هذه المحكمة بشكوى أخرى خاصة بما ألحقوه به من الأذى والإصابات. لكنه يبدو أن الطرفين تصالحًا قبل نظر القضية، لأنه في الشهر التالي لتقديم الشكوى حرر أبولونيوس عقد تنازل للطرف الثاني (13 ديسمبر 129 ق.م)
وعندئذ عاود هرمياس بن بطلميوس نشاطه في هذا الموضوع لمدة عشر سنوات. إننا لا ندري إذا كان قد اقتنع أخيراً بحقه في ذلك الإرث الذي أضاعه نتيجة لإهماله أربعين عامًا، أم أنه كان يؤمل في أن يشاكس النصريين إلى أن ينقدوه ثمن صمته. وعلى كل حال فإنه عاد إلى طيبة وكأنه أبلغ عندئذ فقط أن حورس وبسنحونسيس (Psenchonsis) وخونوبريس (chonopres) وزوجاتهم قد وضعوا أيديهم على بيته دون وجه حق، لكن هؤلاء المصريين قالوا أنهم اشتروا البيت من شيدة تدعى لوبايس (Lobais). وبدلاً من أن بوجه هرمياس دعواه ضد الملاك الحاليين الذين كانوا يرجعون عندئذ على البائعين، وجهها ضد لوبايس التي لم تكن سوى أحد الأشخاص الذين باعوا للمشترين. وقد أودع هرمياس في الصندوق المخصص للشكاوي في مدينة طيبة شكوى لتنظرها "محكمة القضاة الإغريق المختصة في منطقة طيبة التي كان ديونيسيوس المدعي العام أمامها"، لكن المحكمة بعد دعوة الطرفين للمثول أمامها ونظر القضية قررت رفض الدعوى (مايو/ يونيو 125).
عندئذ عاد هرمياس إلى كوم امبو ولم يحرك ساكنًا حتى العام التالي ويبدو كأنه لم يقض الوقت عبثًا بل كان يبحث عن حجة جديدة يمكنه أن يتذرع بها لإخراج المصريين من المنزل، فإنه أخذ منذ ذلك الوقت يستخدم حجته الجديدة برغم ما لقيته من التنفيذ، لأن خلط أو تعمد أن يخلط بين مقدمي القرابين للموتى (choachytes) وبين محنطي جثث الموتى (paraschitai - taricheutai) ووصف المصريين الذين يملكون البيت ويزاولون عملهم فيه بأنهم يحنطون جثث الموتى، مع أن قواعد الصحة العامة كانت لا تجيز مزاولة هذا العمل ولا سكنى مزاوليه على ضفة النيل اليمنى وإنما على الضفة اليسرى. لكن هرمياس لم يقدم شكواه هذه المرة إلى محكمة القضاة الإغريق. إذ أنه عندما عاد إلى طيبة (عام 125/124) قدم مذكرة (hypomnema) إلى القائد هرمياس أملاً في أن يراعيه باعتباره ضابطًا مثله، غير أن المصريين لم يستجيبوا إلى الدعوة التي وجهت إليهم للمثول أمام القائد.
وقد فت ذلك في عضد هرمياس، فقبع ساكنًا في كوم امبو ثلاث سنوات وأخيراً جاء إلى طيبة في عام 121 وحرض القائد على مساعدته. ويبدو أن المصريين كانوا متغيبين إذ ذاك عن المنزل، فأمر القائد رئيس الشرطة بتسليمه إلى هرمياس، لكنه ما كاد يعود إلى كوم امبو حتى عاد المصريون إلى البيت وأقاموا فيه. وبينما كان هرمياس يقوم بمحاولاته العقيمة، حرر المصريون فيما بينهم عقود اقتسام وبيع أصبح حورس بمقتضاها مالك العين موضوع هذا النزاع الطويل.
وفي عام 120 ق.م. لجأ هرمياس إلى ساحة الابيستاتس (حاكم بريثيبس)، فإنه قدم مذكرة إلى الأبيستاتس هيراكليدس يشرح فيها شكواه والخطوات التي اتبعها حتى ذلك الوقت، فأرسل هيراكليدس المحضر لاستدعاء المصريين، لكنهم لم يلبوا الدعوة أملاً في أن يطول الانتظار بهرمياس فيرحل عن طيبة كما فعل قبل ذلك، أو لعلهم كانوا يعلمون أن هيراكليدس لن يبقى طويلاً في منصبه مما يؤدي إلى إسدال ستار النسيان على الموضوع. وفعلاً خلفه شخص يدعى بطلميوس قدم إله هرمياس شكوى جديدة، فأولى الموضوع عنايته وعقد في 26 يونية 119 محكمته، وكانت تتألف منه بوصفه رئيسًا ومن بطلميوس بن أجاخوس وأيريانيوس بن أيرينايوس وأمونيوس وسيسواوسيس (Sesoosis) وغيرهم أعضاء. وافتتح بطلميوس الجلسة التي وصل إلينا محضر بما دار فيها، ولم يتخلف المصريون هذه المرة عن الحضور بل حضر حورس وشركاؤه ومعهم محاميهم دينون. ولم يجد هرمياس داعيًأ للكلام فقد قرئت في الجلسة المذكرة التي قدمها وظهرت صورتها في المحضر وفحواها أن حورس وبسنخونسيس وباناس وزوجاتهم انتهزوا فرصة الظروف السيئة التي اضطرته إلى نقل مقره من طيبة إلى مكان آخر، واقتحموا عنة بيت أجداده واستغلوه كما يشاءون، وإن كل المجهودات التي بذلها ذهبت هباء منثورًا، وإن الوقت قد حان عندئذ لطرد هؤلاء الدخلاء الذين أجترأوا على وضع جثث الموتى في البيت المغتصب.
ولم يجد محامي المصريين عناء في تفنيد مزاعم هرمياس الباطلة، فإنه سأل هرمياس إذا كان في وسعه أن يثبت أنه ورث البيت المذكور عن أجداده، لكنه عجز عن تقديم أي دليل. وعندئذ قرأ المحامي العقود الصحيحة التي لدى موكليه، وأبان أنه بالإضافة إلى ذلك فإن أحد قرارات العفو يسمح لهم بامتلاك البيت امتلاكًا قانونيًا بحق وضع اليد عليه مدة طويلة، حتى إذا لم تكن لديهم عقود ملكية. وأخيرًا طلب المحامي إلى المدعي أن يثبت بأية طريقة يشاء أن أيا كان من أبويه أو هو نفسه قد سكن مدينة طيبة على الإطلاق أو أن هذا البيت كان ملكًا لأسرته، وأردف ذلك بقوله أنه يتضح دون أي بحث أن الدعي لم يتقدم إلا بشكوى كيدية ملفقة وإزاء ذلك أصدر الابيستاتس بطلميوس حكمًا يضع حد لادعاءات هرمياس ويؤيد حق حورس في امتلاك البيت موضوع النزاع.
وعلى الرغم من ذلك فإن هرمياس لم ييأس من دعواه، لكنه لجأ هذه المرة إلى أحد كبار الموظفين وهو د حاكم عام (ابيستراتيجوس) منطقة طيبة بأجمعها، فإنه انتهز فرصة مرور د بمدينة طيبة في فبراير/ مارس 117 وقدم إليه التماسًا بسط فيه موضوعه. ويحدثنا هرمياس بأن ديمتريوس استدعى المصريين لكنهم لم يلبوا الدعوة كعادتهم. ولما لم يكن لدى د متسع من الوقت فإنه أعاد إلى هرمياس التماسه، الذي قدمه من جديد في الشهر التالي إلى القائد هرمياس الذي كان موجودًا عندئذ في لاتونبوليس (Latonpolis). ويبدو أن هذا القائد طلب إلى الأبستاتس بطلميوس أن يرسل إليه خصوم هرمياس لكنه لم يفعل ذلك. وبعد ذلك بثلاثة أشهر، كان الابيستراتيجوس د والقائد هرمياس موجودين سويًا في طيبة، فانتهز صديقنا المتعب هرمياس هذه الفرصة وقدم ثانية إلى القائد المذكرة أو صورة المذكرة التي كان قد قدمها إليه من قبل في لاتونبوليس، فأمر القائد أو زعم أنه أمر المصريين بالحضور ولكنهم أصموا آذانهم عن ذلك، ولم يبث القائد أن برح طيبة.
ومع ذلك بقى هرمياس يتعلق بأهداب الأمل، فإنه ما كاد يعرف أن الأبيستانس بطلميوس، الذي كان قد أصدر حكمًا ضده، قد خلفه شخص آخر يدعى هيراكليدس، حتى تقدم بمذكرة جديدة للقائد هرمياس يشرح فيها كل خطوات قضيته خلال السنين العشر الماضية فيما عدا بطبيعة الحال الحكم الذي صدر ضده، ويبين عناد المصريين ويطلب تحويلها إلى محكمة الابيستاتس هيراكليدس، فحولت المذكرة في 10 نوفمبر 117 إلى هيراكليدس ابيستاتس بريثيبس والمشرف على دخلها.
وأمام محكمة يرأسها هذا الموظف وتتكون من عضوية بولمن وشخص تأخر يدعى أيضًا هيراكليدس وأبولونيوس وهرموجنس وبانكراتوس وبانيسكوس وكثيرين غيرهم، نظرت القضية وترافع فيلوكلس عن هرمياس ودينون عن موكليه المصريين. ونعرف كل ما تناوله نظر القضية من المناقشات والوثائق والحجج القانونية من الملخص الذي قدمه رئيس المحكمة للمحلفين وكان أساس حيثيات الحكم.
لم يكن لدى هرمياس ما يثبت ملكية البيت الذي ادعى أنه ورثه عن أبيه، على حين أن خصومه قدموا ترجمة إغريقية لعقود بيع مصرية ترجع إلى تاريخ سابق على بداية القضية، وتثبت أن آباء المدعي عليهم كانوا قد اشتروا جزءًا فجزءًا ذلك البيت الذي كان هرمياس يطالب بملكيته. وإزاء ذلك لم يجد محامي هرمياس أية حجة يدلى بها في صالح موكله سوى الطعن في صحة هذه العقود، بحجة أنها لاغية في نظر القانون المصري لأنها خالية من القسم، ولاغية في نظر القانون الإغريقي لأنها غير مسجلة، وزعم أن خصوم موكله يشتغلون بالتحنيط، والقواعد العامة للصحة كانت تقتضي عدم مزاولة هذا العمل الكريه بالقرب من الأماكن المقدسة، ولذلك فإنه كان يتعذر عليهم امتلاك بيت هرمياس بالشراء أو بوضع اليد مدة طويلة.
وقد ورد ديونو ردًا مفحمًا، بين أنه منذ هجر والد هرمياس طيبة في بداية عهد بطلميوس الخامس ليستقر في أقاصي مصر العليا، أي منذ 88 عامًا، لم يسكن هو ولا ابنه هرمياس المنزل موضوع القضية، وأن هذه العين كانت في أيدي ملاك آخرين واشتراها منهم المصريون في عام 143/142. أي 37 عامًا قبل رفع القضية، تمتعوا في خلالها بملكية هذا البيت طوال هذه المدة تكسبهم ملكيته. ومع ذلك فإن هذه العقود صحيحة، لأنهم دفعوا ضريبة انتقال الملكية لملتزم جباية ضريبة المبيعات. وبالإضافة إلى كل ذلك فإن أحد قرارات العفو أيد حقوق المُلاك الذين ليست ليست لديهم وثائق تثبت ملكية ما لديهم، واعفاهم من تقديم أدلة كتابية على حقوق ملكيتهم. وإذا كان هرمياس وريثًا فإنه كان يتحتم عليه تسجيل إرثه ودفع الضريبة عن ذلك، وإلا فإنه تفرض عليه ضريبة قدرها 10.000 دراخمة ويفقد حقه في الإرث. وبعد ن ظر القضية أصدر الابيستاتس هيراكليدس في 11 ديسمبر سنة 117 حكمًا يؤيد حكم سلفه بطلميوس، فإنه قضى بأن يكف هرمياس عن مشاغبته وبأن يستمر حورس في الاحتفاظ بملكه. وكان ذلك فصل الختام.
لقد عرضت هذه القضية على ثلاث جهات مختلفة: الأولى محكمة القضاة الإغريق التي تقدم إليها هرمياس بادئ ذي بدء فقضت له بملكية قطعة أرض صغيرة، ثم تقدم إليها أبولونيوس أحد أقارب هرمياس مطالبًا بملكية نصف البيت لكنه تصالح مع المدعي عليهم ولم تفصل المحكمة في الموضوع، ثم تقدم هرمياس إلى المحكمة الإغريقية بشكوى ضد لوبايس التي قال المصريون أنها باعت لهم البيت، وقررت المحكمة رفض الدعوى. أما الجهة الثانية فهي الموظفون الإداريون، فإن هرمياس قدم التماسين إلى سمية القائد هرمياس الذي أفلح مرة في تسليمه البيت، كما أنه شكا أيضًا إلى الابيستراتيجوس مرتين، بيد أنه يلاحظ أنه لا القائد ولا رئيسه الابيسترتيجوس أصدر حكمًا في القضية، وهذا يدل على أنه لم تكن لا يهما سلطة الحكم فيها. أما الجهة الثالثة فهي محكمة الابيستاتس التي أصدرت في القضية حكمين ضد هرمياس .
كسف نفسر إذن التجاء هرمياس إلى هذه الجهات الثلاث؟ وما هي محكمة الابيستاتس؟ يبدو لنا أن محكمة القضاة الإغريق، ومحكمة الابيستاتس كانتا جهة الاختصاص التي تستطيع الفصل في القضية. ولعل منشأ محكمة الابيستاتس في القرن الثاني يرجع إلى كثرة المنازعات التي ترتبت على ما عانته البلاد من اضطرابات شديدة في خلال هذا القرن مما اقتضى إنشاء هيئة تساعد محكمة القضاة الإغريق المتنقلة وتفصل في القضايا التي تنشأ بين فترات انعقادها، بدلاً من تراكم القضايا أو اضطرار المتقاضين إلى تجشم متاعب ومصاريف الانتقال إلى الإسكندرية، على نحو ما كان يحدث في القرن الثالث. لكن محكمة ابيستاتس بريثيبس هي محكمة الابيستاتس الوحيدة التي أتانا خبرها.
فهل سبب ذلك الصدفة وحدها؟ أم أنه كان لهذه المديرية وضع خاص لأنه كانت توجد فيها العاصمة القديمة طيبة التي كانت أكبر مركز للثورات القومية؟ لعل الاحتمال الأول هو الأرجح لأن محكمة الابيستاتس لم تحل محل محاكم القضاة الإغريق أو محاكمة القضاة المصريين. ولا نعرف أنه كان لمحكمة الابيستاتس اختصاص لم يكن لغيرها من المحاكم الأخرى. وعلى كل حال فإن إنشاء محكمة الابيستاتس ينهض دليلاً على ازدياد اختصاص رجال الإدارة القضائي بمرور الزمن في عهد البطالمة، لأن الابيتستاتس هنا كان حاكم مديرية بريثيبس ونائبًا عن القائد الذي كان على رأس منطقة إدارية تدخل هذه المديرية في نطاقها. لكن كيف كان يسمح بنظر قضية أمام محكمة الابستاتس بعد نظرها أمام محكمة القضاة الإغريق، وكيف كان يسمح بنظر قضية واحدة أمام محكمة الابيستاتس مرتين؟ إن محكمة الابستاتس لم تكن محكمة استئناف، فقد عرضت على محكمة الابستاتس هيراكليدس قضية مدنية ليس فيها ما يدل على أنها عرضت قبل ذلك على محكمة القضاة الإغريق. وهذه القضية بين شخصين مصريين، لكن موضوع النزاع بينهما عقد إغريقي، ولذلك كان يتعين الفصل في القضية طبقًا لأحكام القانون الإغريقي ومن ثم لم تعرض على محكمة القضاة المصريين. وإذا فرضنا جدلاً أنه كان يمكن الاستئناف من أحكام المحاكم الإغريقية إلى محكمة الابستاتس، فإن هذا لا يفسر عرض القضيةنفسها على هذه المحكمة الأخيرة مرتين.
ويرى بوشيه لكلرك أن ما حدث في قضية هرمياس يدل على أن منطقة طيبة كانت منطقة محكومة حكمًا عسكريًا، ولذلك فإن اختصاص محكمة القضاة الإغريق كان مقصورًا على بيان أحكام القانون؛ أما الأحكام الواجبة التنفيذ، فإنها كانت من اختصاص محكمة الابيستاتس. وهذا رأي غير مقبول، لأن محكمة القضاة الإغريق أصدرت في قضية هرمياس ذاتها في أولى مراحلها حكمًا نفذ فعلاً واسترد هرمياس بموجبه جانبًا من إرثه. ومن الغريب أن هذا المؤرخ نفسه يقول في موضع آخر من الايستاتس بطلميوس لم يضع حدًا لدعاوي هرمياس، وعلى كل حال فقد رأينا أن حكم محكمة الابيتاتس هيراكليدس كان ختام هذه القضية.
يبدو لنا أن هرمياس اتبع أول الأمر الطريق العادي، فقد لجأ إلى محكمة القضاة الإغريق أملاً في أن ترد إليه حقوقه، فلما خاب هذا الأمل حاول أن يستغل جنسيته ونفوذ الموظفين الإداريين. ولما لم يجده ذلك نفعًا، انتظر فترة عدم انعقاد محكمة القضاة الإغريق وتقدم إلى محكمة الابستاتس لا ليستأنف الحكم الصادر من محكمة القضاة الإغريق وإنما ليقيم دعوى جديدة ضد مدعي عليهم جدد، فإن دعواه الأولى كانت ضد تولايس التي قال المصريون أنها باعت البيت لهم، أما الدعوى الجديدة، فإنها كانت ضد المصريين أنفسهم. وعندما صدر الحكم ضده من محكمة الابيستاتس بطلميوس، لجأ دون جدوى إلى الموظفين الإداريين مرة أخرى. وما كاد يعلم أنه قد خلف الابيستاتس بطلميوس في منصبه الابيستاتس هيراكليدس ـ الذي يبدو أنه كان الشخص نفسه الذي كان قد تقدم إليه بشكواه في عام 120 ولم يأبه به المدعي عليهم عندما استدعاهم للحضور أمامه ـ حتى لجأ إليه هرمياس ثانية مؤملاً أن هيراكليدس سنتصر له من المصريين الذين أزدروه. لكن أكان يكفي إثارة ضغينة رئيس محكمة لإعادة النظر في قضية سبق الحكم فيها؟ أننا نستبعد ذلك، ومن ثم فإنه يجب البحث عن تفسير آخر.
لقد كان الحكم الصادر من محاكم القضاة المصريين في قضية مدنية لا يعتبر فاصلاً في الدعوى (res judicata)، إلا إذا صحبه عقد تنازل عن الدعوى. ويبدو أن القانون الإغريقي قد تأثر بهذا المبدأ، وأن الإغريق استغلوا هذا المبدأ أسوأ استغلال، مما حدا بأحد البطالمة في أواخر القرن الثاني إلى إصدار أمر يقضي بفرض غرامة كبيرة على من تفصل في أمره محكمة ملكية ويعرض الموضوع نفسه أمام حكمة أخرى. ويتبين من نص الأمر أن المقصود بالمحكمة الملكية المحكمة التي كان الملك يرأسها. وإذا كان الناس لا يتوزعون عن أن يشيروا من جديد القضايا التي كان الملك يفصل فيها، فلابد من أنهم كانوا لا ينفكون يشيرون مراراً القضايا التي كان يفصل فيها قضاة آخرون. ولما كان الأمر سالف الذكر خاصًا بالقضايا التي كانت تفصل فيها محكمة الملك، فلابد من أنه لم يمس تكرار عرض القضايا نفسها على المحاكم "الملكية" الأخرى ـ محاكم القضاة المصريين ومحاكم القضاة الإغريق. وفضلاً عن ذلك فإنه لا يوجد ما يستدل منه على أن هذا الأمر الملكي كان سابقًا على نظر قضية هرمياس، بل أن القرائن لتوحي بأن العكس هو الصحيح. وعلى كل حال فإن هذا الأمر الملكي المتأخر خير شاهد على تفشي عادة تكرار عرض القضايا نفسها على المحاكم البطلمية، وفي ضوء ذلك نستطيع أن نفسر تفسيرًا شافيًا عرض قضية هرمياس على محكمة القضاة الإغريق ثم على محكمة الابيستاتس، وكذلك عرضها على محكمة الابيستاتس هيراكليدس بعد عرضها على محكمة الابستاتس بطلميوس