فريدريك أوغست كيكولهFriedrich August Kekul- وُلِد: 1829؛ تُوفي: 1896 (ألمانيّ)
أفعى تبتلع ذنبَها؟ سلسلة راقصين مترابطة الأذرع؟ ما علاقة هذه الظواهر بالعِلم؟
كانت تلك أحلامُ يقظة قادت الكيميائيّ النظريّ، فريدريك كيكوله، إلى اكتشافيْن هامّيْن جدًّا في مجال الكيمياء. بدأ كيكوله دراسته الأكاديميّة كطالبٍ في قسم الهندسة المعماريّة. ولكنّ ما أوصله إلى الكيمياء كان محض صدفة: في يوم من الأيّام حضرَ كيكوله محاكمةً لجريمة قتلٍ كان فيها أستاذ الكيمياء المعروف، يوستوس ليبيغ، شاهدًا قانونيًّا. أثارت شهادة ليبيغ إعجابَ كيكوله لدرجة أنّ هذا الأخير سجّل لمساقات الكيمياء التي يُدرّسها ليبيغ، ومن يومها لم يلتفت كيكوله إلى الوراء. مع ذلك – فإنّ ميوله إلى الهندسة المعماريّة وأفكاره الواسعة، ظهرت بشكلٍ واضحٍ في كلّ أبحاثه واكتشافاته في مجال الكيمياء.
كانت إحدى المسائل التي تعامل معها كيكوله في بداية حياته المهنيّة كعالِم كيمياء هي ما يلي: لماذا تُعتبر الجزيئات "العضويّة" – التي تمّ تعريفُها في تلك الفترة كجزيئات تنشأ في جسم الإنسان، الحيّ والنامي، والتي لا يمكن إنشاؤها في مختبرٍ على يد البشر – أكبر حجمًا بكثير من الجزئيات غير العضويّة؟ فهمَ كيكوله أنّ الكربون هو المركّب الأساسيّ في التركيبة العضويّة، وتوصّل إلى استنتاجٍ يُفيد أنّ الحالة الخاصّة للكربون وكثرة المركّبات التي يُعتبر جزءًا منها، تتعلّق بُقدرة الربط الكيميائيّ الموجودة لدى ذرّة الكربون. اكتشف كيكوله أننا لو افترضنا بأنّ للكربون قيمة رباعيّة – أي إنّه يستطيع الارتباط مباشرةً بأربع ذرّات أكسجين، مثلاً، ففي الإمكان عندها تفسير المعادلات الخاصّة بكثرة مركّبات الأكسجين المعروفة. في تلك الأيّام، لم يكن معروفًا بعدُ أنّ للجزيئات مبنًى حيِّزيًّا يؤثّر على صفاتها، وهو مبنًى لا يتغيّر (تقريبًا) طالما أنّ الجزيء موجود، حتّى وإن كان جزءًا من تفاعلاتٍ مختلفة.
صفوف الجوقة المُوسيقيّة
يعني المصطلح "كيمياء عضوية" اليومَ "كيمياءَ تركيبة الأكسجين"، ويمكن الافتراضُ بأنّ في الإمكان، مبدئيًّا، إنتاج أيّ جزيءٍ موجودٍ في عالِم الطبيعة بالمختبر (حتّى لو كان العِلم لا يزال بعيدًا، علميًّا، عن تحقيق هذه الإمكانيّة المبدئيّة بشكلٍ كامل). بشكلٍ عمليّ، تمّ رفضُ التقدير الذي اقترحه كيكوله، والذي يفيد إنّ المركّبات "العضويّة" هي، ببساطة، تلك المركّبات التي ترتكزُ على الكربون، في ذلك الوقت. آنذاك، كانت لا تزال "نظريّة القوّة الحيويّة، أو كما تُسمّى بالإنجليزيّة "فيتاليزم" التي أكّدت أنه من غير المعقول أن تكون وظائف الجسم الحيّ هي ناتج حصريّ للكيمياء العاديّة، إذ إنّها تحتاج إلى "روح" تنفُخ فيها الحياة. إنّ فكرة أنّ التفاعلات الكيميائيّة هي المسؤولة عن كلّ ما يحدث في الجسم الحيّ رُفِضَت بشكل قاطع في ذلك الوقت. تمكّن كيكوله من تقويض المعتقد الحيويّ. واحتلّت الفرضيات التي طرحَها مكانة مرموقة لدى جماعة العلماء في ذلك الوقت، كما تقلّص عدد داعمي النظريّة الحيويّة. مع ذلك، فإنّ نجاح كيكوله لم تقض تمامًا على هذه النظريّة. فمعظم الديانات التي نعرفها اليوم ترتكزُ على نوعٍ ما من هذه النظريّة.
بعد وقتٍ قصيرٍ على نشرِ اكتشافه بخصوص القيمة الرباعية للكربون، وجدَ كيكوله نفسه يُسافر بالحافلة في شوارع لندن الفارغة من الناس في ساعات الليل المتأخّرة، ورأى نفسه يحلم بالذرّات والجزيئات. رأى في خياله الذرّاتِ ترقصُ أزواجًا، تتصّل أذرعتها بعضها ببعض، وتُحيط بها عدّة ذرّاتٍ كبيرةٍ مُحاطة، بدورها، بذرّات أصغر حجمًا. في النهاية رسم كيكوله في خياله سلسلة ذرّاتٍ كبيرة وذرّاتٍ صغيرة ترقصُ في حلقة، فبزغَت الفكرة في رأسه: إنّ أساس كلّ الجزيئات العضويّة عبارة عن سلسلة من الكربونات المتّصلة بعضها ببعض. تتصل بهذه السلسلة ذرّات أخرى، وهي بشكلٍ عامّ ذرّات الهيدروجين، كما لو أنّها ترقصُ حولها. كانت الذرّات الراقصة المُتّصلة وسلسلة الكربون، عمليًّا، حجر الأساس للكيمياء البنيوية، التي تُعتبر، حتّى اليوم، من المبادئ الأساسيّة في الكيمياء. اعتمادًا على أفكاره الصوَريّة، اقترح كيكوله طريقةً جديدة لتسجيل الصيَغ الكيميائيّة. إنها الصيَغ البنيويّة التي تُظهِر ترتيب الذرّات في الجزيء والروابط الداخليّة التي بين الجزيئات. وبذلك، أضافَ كيكوله معلوماتٍ هامّةً لم يكن من الممكن الحصول عليها من خلال الصيغة الجزيئية المُعتمَدة. فقد اقترح، مثلاً، بالنسبة لجزيء البروبان الذي صيغتُه الجزيئيّة هي C3H8الصيغةَ البنيويّة التالية:
غاز البروبان
[size]
كما اقترَح بالنسبة لجزيء الهكسان، الذي ينتمي هو أيضًا إلى عائلة مركّبات الكربون، والذي صيغتُه الجزيئيّة هي C
6H
14، الصيغةَ البنيويّة المُقابِلة – سلسلة مؤلّفة من ستّة كربونات مُحاطة بـ14 ذرّة هيدروجين، كما يظهر ذلك في الرسم التوضيحيّ التالي:
[/size]
جُزيء الهكسان
[size]
قامَ كيكوله بتطوير ونشرِ التوجّه الذي يفيد أنّ التفاعلات الكيميائيّة وخصائص المواد يُمكن استخدامُها كخطوط موجهة لفكّ شفرة بنية هذه الجزيئات من جهة، وأنّ الصيَغ البنيويّة، بدورها، تُساعد في التنبّؤ بصفات المواد وفهم التفاعلات الكيميائية التي تكون جزءًا منها – من جهةٍ ثانية. وقد أعطى هذا الأمر دفعةً جدية لفهمٍ عالمٍ كاملٍ من المواد ولفهمِ تطوّر الكيمياء كعِلم.
يُحدّد الافتراضُ بأنّ مبنى البنزين أشبه ما يكون بالخاتم:
[/size]
جُزيء البنزين
[size]
كانت النظريّة بسيطةً جدًّا ومنمّقة أيضًا، تُناسب المعطيات بصورةٍ مثاليّة، حتّى إنّه تمّ اعتمادُها بشكلٍ فوريّ وحظيت من البداية بالاعتراف المناسب. (شأنها شأن الحالات الريادية الأخرى في مجال العِلم، بالطبع كان هناك آخرون ممن شدّوا شعرَهم قائلين: "كيف لم يخطر لي ذلك؟"). اليوم، وباعتبار أنّ مبدأ الاتّصال الكيميائيّ يرتكزُ على الصفة الواضحة للمادّة، فإنّ هذه الصيغة تُعتبر بسيطةً جدًّا، ولكن ما من شكّ في أنّها شكّلت ثورةً في حلّ لغز المبنى الجزيئيّ للبنزين، ثم في حلّ لغزِ المبنى الجزيئيّ لعائلةٍ كاملةٍ من الجزيئات
"العضويّة".
تأثّرت حياة كيكوله الشخصيّة، كذلك، بمحبّته للكيمياء. عندما توفيت زوجته الأولى وحبيبته، ستيفاني، أثناء ولادة ابنهما (الأمر الذي كان شائعًا جدًّا في تلك الأيام)، انسحب كيكوله إلى عالم الكيمياء وأحلام اليقظة، ولم يرجع أبدًا إلى العالَم من هناك. مع ذلك، كان كيكوله متنبّهًا لضرورة اختبار هلوسته بشكلٍ متواصل، والمقولةُ التالية منسوبةٌ إليه: "فلنتعلّم أن نحلم – هكذا نكتشف الحقيقة. ولكن فلنمتنع عن نشر الأحلام إلى حين فحصها على ضوء الفهم في ساعات اليقظة!"
منحَ القيصرُ فيلهلم الثاني لقبَ "نبيل" لكيكوله قبل وفاته بسنة، ومن حينها، حمَل بفخرٍ الاسم كيكوله بون ستاردونيتس.[/size]