يتبع غزوة بدر الكبرى
أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة
حراجة موقف الجيش الإسلامي:
أما استخبارات جيش المدينة فقد نقلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -
وهو لا يزال في الطريق بوادي ذقران - خبر العير والنفير، وتأكد لديه بعد
التدبر في تلك الأخبار أنه لم يبق مجال للاجتناب عن لقاء دام، وأنه لا بد
من إقدام يبنى على الشجاعة والبسالة، والجراءة والجسارة، فمما لا شك فيه
أنه لو ترك جيش مكة يجوس خلال تلك المنطقة يكون ذلك تدعيماً لمكانة قريش
العسكرية، امتداداً لسلطانها السياسي، وإضعافاً لكلمة المسلمين وتوهيناً
لها، بل ربما تبقى الحركة الإسلامية بعد ذلك جسداً لا روح فيه، ويجرؤ على
الشر كل من فيه حقد أو غيظ على الإسلام في هذه المنطقة.
وبعد هذا كله فهل يكون هناك أحد يضمن للمسلمين أن يمنع جيش مكة عن مواصلة
سيره نحو المدينة، حتى ينقل المعركة إلى أسوراها، ويغزو المسلمين في عقر
دارهم كلا فلو حدث من جيش المدينة نكول ما لكان له أسوأ الأثر على هيبة
المسلمين وسمعتهم.
المجلس الاستشاري:
ونظراً إلى هذا التطور الخطير المفاجىء عقد رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم مجلساً عسكرياً استشارياً أعلى، أشار فيه إلى الوضع الراهن، وتبادل
فيه الرأي مع عامة جيشه، وقادته. وحينئذ تزعزع قلوب فريق من الناس، وخافوا
اللقاء الدامي، وهم الذين قال اللَّه فيهم {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ
بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ *
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ
إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال: 5-6] وأما قادة الجيش فقام
أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام
المقداد بن عمرو فقال: يا رسول اللَّه امض لما أراك اللَّه فنحن معك،
واللَّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا
إنَّا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي
بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له به.
وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين، وهم أقلية في الجيش، فأحب رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يعرف رأي قادة الأنصار، لأنهم كانوا يمثلون
أغلبية الجيش، ولأن ثقل المعركة سيدور على كواهلهم، مع أن نصوص العقبة لم
تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم، فقال بعد سماع كلام هؤلاء القادة الثلاثة
أشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الأنصار، وفطن ذلك قائد الأنصار وحامل
لوائهم سعد بن معاذ، فقال
... واللَّه لكأنك تريدنا يا رسول اللَّه؟
قال: أجل.
قال: فقد آمنا بك، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على
ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول اللَّه لما أردت
فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف
منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إن لصبر في الحرب، صدق في
اللقاء، ولعل اللَّه يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة اللَّه.
وفي رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعلك تخشى
أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن
الأنصار وأجيب عنهم، فأظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت وخذ
من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت،
وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فواللَّه لئن سرت حتى تبلغ البرك
من غمدان لنسيرن معك، وواللَّه لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه
معك.
فسر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا
وأبشروا فإن اللَّه تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، واللَّه لكأني الآن
أنظر إلى مصارع القوم.
الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بعملية الاستكشاف:
وهناك قام بنفسه بعملية الاستكشاف مع رفيقه في الغار أبي بكر الصديق رضي
اللَّه عنه، وبينما هما يتجولان حول معسكر مكة إذا هما بشيخ من العرب،
فسأله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه - سأل عن
الجيشين زيادة في التكتم - ولكن الشيخ قال: لا أخبركما حتى تخبراني ممن
أنتما؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك، قال:
أو ذاك بذلك؟ قال: نعم.
قال الشيخ فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق
الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به جيش المدينة -
وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم
بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به جيش مكة.
ولما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
نحن من ماء، ثم انصرف عنه، وبقي الشيخ يتفوه، ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟
نزول المطر:
وأنزل اللَّه عز وجل في تلك الليلة مطراً واحداً، فكان على المشركين
وابلاً شديداً منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهرهم به، وأذهب
عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به
المنزل، وربط به على قلوبهم.
الجيش الإسلامي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية:
وتحرك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر،
ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر، وهنا
قام الحباب بن المنذر كخبير عسكري وقال: يا رسول اللَّه، أرأيت هذا المنزل
أمنزلا أنزلكم اللَّه ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي
والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
قال: يا رسول اللَّه، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء
من القوم - قريش - فننزله ونغوّر - أين نخرب - ما وراءه من القلب - ثم
نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم لقد أشرت بالرأي.
فنهض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو
فنزل عليه شطر الليل، ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من القلب.
يتبع غزوة بدر الكبرى
أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة
مقر القيادة:
وبعد أن تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم أن يبني المسلمون مقراً لقيادته استعداداً للطوارىء
وتقديراً للهزيمة قبل النصر، حيث قال:
يا نبي اللَّه ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى
عدونا، فإن أعزنا اللَّه وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت
الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا
نبي اللَّه ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا
عنك، يمنعك اللَّه بهم يناصحونك ويجاهدون معك.
فأثنى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له بخير، وبنى
المسلمون عريشاً على تل مرتفع يقع في الشمال الشرقي لميدان القتال، ويشرف
على ساحة المعركة.
كما تم انتخاب فرقة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حول مقر قيادته.
تعبئة الجيش وقضاء الليل:
ثم عبأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جيشه ومشى في موضع المعركة، وجعل
يشير بيده هذا مصرع فلان غدا إن شاء اللَّه، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء
اللَّه ثم بات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع شجرة هنالك.
وبات المسلمون ليلهم هادىء الأنفاس منير الآفاق، غمرت الثقة قلوبهم،
وأخذوا من الراحة قسطهم، يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم صباحاً {إِذْ
يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ
الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ
الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11].
كانت هذه الليلة ليلة الجمعة، السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وكان خروجه في 8 أو 12 من نفس الشهر.
الجيشان يتراآن:
ولما طلع المشركون وتراآى الجمعان قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك
الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر - إن يكن في أحد من القوم
خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا.
وعدل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صفوف المسلمين، وبينما هو يعدلها وقع
أمر عجيب، فقد كان في يده قدح يعدل به، وكان سواد بن غزية مستنصلاً من
الصف. فطعن في بطنه بالقدح وقال: استو يا سواد، فقال سواد يا رسول اللَّه
أوجعتني فأقدني، فكشف عن بطنه، وقال: استقد، فاعتنقه سواد وقبل بطنه،
فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول اللَّه قد حضر ما ترى، فأردت
أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم بخير.
ولما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بأن لا يبدأوا القتال حتى
يتلقوا منه الأوامر الأخيرة، ثم أدلى إليهم بتوجيه خاص في أمر الحرب فقال:
إذا أكثبوكم - يعني كثروكم - فارموهم واستبقوا نبلكم. ولا تسلوا السيوف
حتى يغشوكم، ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة، وقام سعد بن معاذ بكتيبة
الحراسة على باب العريش.
أما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال: اللهم اقطعنا للرحم
وآتنا بما لا نعرفه فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك
فانصره اليوم، وفي ذلك أنزل اللَّه {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ
الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ
وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19].
ساعة الصفر وأول وقود المعركة:
وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومي - وكان رجلاً شرساً
سيء الخلق - خرج قائلاً أعاهد اللَّه لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو
لأموتن دونه. فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه، فلما
التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب
رجله دماً نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد أن تبر يمينه،
ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض.
المبارزة:
وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان
قريش كانوا من عائلة واحدة، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن
عتبة فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من شباب
الأنصار، عوف ومعوذ ابنا الحارث - وأمهما عفراء - وعبد اللَّه بن رواحة،
فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: أكفاء كرام. ما لنا بكم
حاجة، وإنما نريد بني عمنا، ثم نادى مناديهم يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا
من قومنا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قم يا عبيدة بن الحارث،
وقم يا حمزة، وقم يا علي فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: من أنتم؟ فأخبروهم
فقالوا: أنتم أكفاءٌ كرام، فبارز عبيدة - وكان أسن القوم - عتبة بن ربيعة،
وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد، فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرنيهما أن
قتلاهما، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان، فأثخن كل واحد منهما
صاحبه، ثم كر علي وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة، قد قطعت رجله، فلم
يزل صمتاً حتى مات بالصفراء بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر حينما كان
المسلمون في طريقهم إلى المدينة.
وكان علي يقسم باللَّه أن هذه الآيات نزلت فيهم {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19].
الهجوم العام:
وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة إلى المشركين، فقدوا ثلاثة
من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة، فاستشاطوا غضباً، وكروا على المسلمين
كرة رجل واحد.
وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه
تلقوا هجمات المشركين المتوالية، وهم مرابطون في مواقعهم، واقفون موقف
الدفاع، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة، وهم يقولون أحد أحد.
الرسول صلى الله عليه وسلم يناشد ربه:
وأما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف
يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني
أنشدك عهدك ووعدك، حتى إذا حمي الوطيس، واستدارت رحى الحرب بشدة واحتدم
القتال وبلغت المعركة قمتها قال: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا
تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً. وبالغ في الابتهال حتى سقط
رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق وقال: حسبك يا رسول اللَّه، ألححت على
ربك.
وأوحى اللَّه إلى ملائكته {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا
سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12] وأوحى
إلى رسوله {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}
[الأنفال: 9] أي أنهم ردف لكم، أو يردف بعضهم بعضاً أرسالاً، لا يأتون
دفعة واحدة.
نزول الملائكة:
وأغفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال:
أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع (أي الغبار) وفي رواية محمد
بن إسحاق قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر
اللَّه، هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع.
ثم خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من باب العريش وهو يثب في الدرع
ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ثم أخذ
حفنة من الحصباء، فاستقبل بها قريشاً وقال: شاهت الوجوه، ورمى بها في
وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة،
في ذلك أنزل اللَّه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
رَمَى} [الأنفال: 17].
__________________
يتبع غزوة بدر الكبرى
أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة
إبليس ينسحب عن ميدان القتال:
ولما رأى إبليس - وكان قد جاء في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي كما
ذكرنا، ولم يكن فارقهم منذ ذلك الوقت - فلما رأى ما يفعل الملائكة
بالمشركين فر ونكص على عقبيه، وتشبث به الحارث بن هشام - وهو يظنه سراقة -
فوكز في صدر الحارث فألقاه، ثم خرج هارباً، وقال له المشركون إلى أين يا
سراقة؟ ألم تكن قلت إنك جار لنا، لا تفارقنا؟ فقال: إني أرى ما لا ترون،
إني أخاف اللَّه واللَّه شديد العقاب، ثم فر حتى ألقى نفسه في البحر.
الهزيمة الساحقة:
وبدأت أمارات الفشل والاضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملات
المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في
الفرار والانسحاب المبدد، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون حتى تمت
عليهم الهزيمة.
صمود أبي جهل:
أما الطاغية الأكبر أبو جهل، فإنه لما رأى أول أمارات الاضطراب في صفوفه
حاول أن يصمد في وجه هذا السيل، فجعل يشجع جيشه، ويقول لهم في شراسة
ومكابرة لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا
يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم قد عجلوا، فواللات والعزى لا نرجع
حتى نقرنهم بالحبال، ولا ألفين رجلاً منكم قتل منهم رجلاً، ولكن خذوهم
أخذاً حتى نعرفهم بسوء صنيعهم.
ولكن سرعان ما تبدى له حقيقة هذه الغطرسة، فما لبث إلا قليلاً حتى أخذت
الصفوف تتصدع أمام تيارات هجوم المسلمين. نعم بقي حوله عصابة من المشركين
ضربت حولهسياجاً من السيوف وغابات من الرماح، ولكن عاصفة هجوم المسلمين
بددت هذا السياج وأقلعت هذه الغابات، وحينئذ ظهر هذا الطاغية، ورآه
المسلمون يجول على فرسه، وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدي غلامين
أنصاريين.
مصرع أبي جهل:
قال عبد الرحمن بن عوف إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يميني وعن
يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سراً من
صاحبه يا عم، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، فما تصنعبه؟ قال: أخبرت أنه
يسب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قال: والذي نفسي بيده لئن رأيته لا
يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك. قال: وغمزني الآخر،
فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت ألا
تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى
قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: أيكما قتله؟
فقال كل واحد منهما أنا قتلته، هل مسحتما سيفيكما؟ فقالا لا فنظر رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال: كلاكما قتله، وقضى رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ
بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء.
وقال ابن إسحاق قال معاذ بن عمرو بن الجموح سمعت القوم، وأبو جهل في مثل
الحرجة - والحرجة الشجر الملتف، أو شجرة من الأشجار لا يوصل إليها، شبه
رماح المشركين وسيوفهم التي كانت حول أبي جهل لحفظه بهذه الشجرة - وهم
يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه، قال: فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت
نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنت قدمه - أطارتها - بنصف
ساقه، فواللَّه ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى
حين يضرب بها. قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي، فتعلقت بجلدة
من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي،
فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها ثم مر بأبي
جهل - وهو عقير - معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق، وقاتل
معوذ حتى قتل.
ولما انتهت المعركة قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ينظر ما صنع
أبو جهل؟ فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه
وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال: هل أخزاك
اللَّه يا عدو اللَّه؟ قال: وبماذا أخزاني؟ أأعمد من رجل قتلتموه؟ أو هل
فوق رجل قتلتموه؟ وقال: فلو غير أكار قتلني، ثم قال: أخبرني لمن الدائرة
اليوم؟ قال: للَّه ورسوله، ثم قال لابن مسعود - وكان قد وضع رجله على عنقه
- لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم
في مكة.
وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول اللَّه، هذا رأس عدو اللَّه
أبي جهل، فقال: اللَّه الذي لا إله إلا هو؟ فرددها ثلاثاً، ثم قال: اللَّه
أكبر، الحمد للَّه الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق
أرنيه، فانطلقنا فأريته إياه، فقال: هذا فرعون هذه الأمة.
وقتل عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة.
ونادى أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه ابنه عبد الرحمن - وهو يومئذ مع المشركين - فقال: أين مالي يا خبيث؟ فقال عبد الرحمن:
كانت أول وقعة أوقعها اللَّه بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلي من استبقاء الرجال
انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة إلى المشركين، وبفتح مبين بالنسبة
للمسلمين وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلاً، ستة من
المهاجرين وثمانية من الأنصار.
أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون وأسر سبعون. وعامتهم القادة والزعماء والصناديد.
ولما انقضت الحرب أقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى
فقال: بئس العشيرة كنتم لنبيكم. كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني
الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قلب بدر.
مكة تتلقى نبأ الهزيمة:
فر المشركون من ساحة بدر في صورة غير منظمة، تبعثروا في الوديان والشعاب واتجهوا صوب مكة مذعورين، لا يدرون كيف يدخلونها خجلاً.
قال ابن إسحاق وكان أول من قدم بمصاب قريش الحيسمان بن عبد اللَّه
الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو
الحكم بن هشام، وأمية بن خلف في رجال من الزعماء سماهم، فلماأخذ يعد أشراف
قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر واللَّه إن يعقل هذا. فاسألوه
عني قالوا: ما فعل صفوان بن أمية قال: ها هو ذا جالس في الحجر، وقد
واللَّه رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
وقال أبو رافع - مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - كنت غلاماً
للعباس، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل،
وأسلمت، وكان العباس يكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه
الخبر كبته اللَّه وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوةً وعزاً، وكنت رجلاً
ضعيفاً أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فواللَّه إني لجالس فيها أنحت
أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذا أقبل أبو
لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو
جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له
أبو لهب هلم إلي، فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه.
فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: ما هو إلا أن لقينا
القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا. وايم
اللَّه مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء
والأرض، واللَّه ما تليق شيئاً، ولا يقوم لها شيء.
قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت تلك واللَّه الملائكة. قال:
فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملني فضرب بي
الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلاً ضعيفاً، فقامت أم الفضل إلى عمود من
عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فعلت في رأسه شجة منكرة، وقالت:
استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام مولياً ذليلاً، فواللَّه ما عاش إلا سبع
ليال حتى رماه اللَّه بالعدسة فقتلته وهي قرحة تتشاءم بها العرب، فتركه
بنوه، وبقي ثلاثة أيام لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة
في تركه حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى
واروه.
وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة،
حتى إنهم أشاعوا خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما رأى أحد
المنافقين زيد بن حارثة راكباً القصواء - ناقة رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم - قال: لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول
من الرعب، وجاء فلاّ.
فلما بلغ الرسولان أحاط بهما المسلمون، وأخذوا يسمعون منهما الخبر، حتى
تأكد لديهم فتح المسلمين، فعمت البهجة والسرور، واهتزت أرجاء المدينة
تهليلاً وتكبيراً، وتقدم رؤوس المسلمين - الذين كانوا بالمدينة - إلى طريق
بدر، ليهنئوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - بهذا الفتح المبين.
قال أسامة بن زيد أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم التي كانت عند عثمان بن عفان، كان رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان.
__________________
قضية الأسارى:
ولما بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة استشار أصحابه في
الأسارى، فقال أبو بكر يا رسول اللَّه هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان،
وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى
أن يهديهم اللَّه، فيكونوا لنا عضداً.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت
واللَّه ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر -
فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من
فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم اللَّه أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين
وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فهوى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت،
وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر فغدوت إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وأبي بكر، هما يبكيان، فقلت يا رسول اللَّه أخبرني ماذا يبكيك
أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء،
فقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة.
وأنزل اللَّه تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ
يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ
اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:
67-68].
واستقر الأمر على رأي الصديق فأخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف
درهم إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألف درهم، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل
المدينة لا يكتبون فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان
المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداء.
ومن على ختنه أبي العاص بشرط أن يخلي سبيل زينب، وكانت قد بعثت في فدائه
بمال، بعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلته بها على أبي العاص،
فلما رآها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، واستأذن
أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوه، واشترط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
على أبي العاص أن يخلي سبيل زينب، فخلاها، فهاجرت، وبعث رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار، فقال: كونا ببطن يأجج حتى
تمر بكما زينب فتصحباها، فخرجا حتى رجعا بها. وقصة هجرتها طويلة مؤلمة.
وكان في الأسرى سهيل بن عمرو، وكان خطيباً مصقعاً، فقال عمر يا رسول
اللَّه، انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع لسانه، فلا يقوم خطيباً عليك في
موطن أبداً، بيد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رفض هذا الطلب،
احترازاً عن المثلة وعن بطش اللَّه يوم القيامة.
وفي السنة الثانية من الهجرة فرض صيام رمضان، وفرضت زكاة الفطر، وبينت
أنصبة الزكاة الأخرى، وكانت فريضة زكاة الفطر وتفصيل أنصبة الزكاة الأخرى؛
تخفيفاً لكثير من الأوزار التي يعانيها عدد كبير من المهاجرين اللاجئين
الذين كانوا فقراء لا يستطيعون ضرباً في الأرض.
ومن أحسن المواقع وأروع الصُّدف أن أول عيد تعيد به المسلمون في حياتهم هو
العيد الذي وقع في شوال سنة 2هـ إثر الفتح المبين الذي حصلوا عليه في غزوة
بدر، فما أروق هذا العيد السعيد الذي جاء به اللَّه بعد أن توج هامتهم
بتاج الفتح والعز، وما أروع منظر تلك الصلاة التي صلوها بعد أن خرجوا من
بيوتهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتوحيد والتحميد، وقد فاضت قلوبهم رغبة
إلى اللَّه، وحنينا إلى رحمته ورضوانه بعد ما أولاهم من النعم، وأيدهم به
من النصر، وذكرهم بذلك قائلاً: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ
مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ
فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26
غزوة أحد
استعداد قريش لمعركة ناقمة:
كانت مكة تحترق غيظاً على المسلمين مما أصابها في معركة بدر من مأساة
الهزيمة وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذ
الثأر، حتى إن قريشاً كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر، ومنعوا من
الاستعجال في فداء الأسارى حتى لا يتفطن المسلمون مدى مأساتهم وحزنهم.
وعلى إثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين تشفي
غيظها وتروي غلة حقدها، وأخذت في الاستعداد للخوض في مثل هذه المعركة.
وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وعبد اللَّه بن ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطاً وتحماساً لخوض المعركة.
وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو
سفيان والتي كانت سبباً لمعركة بدر. وقالوا للذين كانت فيها أموالهم يا
معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه،
لعلنا ندرك منه ثأراً، فأجابوا لذلك، فباعوها. وكانت ألف بعير، والمال
خمسين ألف دينار وفي ذلك أنزل اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}
[الأنفال: 36].
ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيش
وكنانة وأهل تهامة، وأخذوا لذلك أنواعاً من طرق التحريض، حتى إن صفوان بن
أمية أغرى أبا عزة الشاعر - الذي كان قد أسر في بدر فمن عليه رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحه بغير فدية، وأخذ منه العهد بأن لا يقوم
ضده - أغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين، وعاهده أنه إن رجع
عن الغزوة حياً يغنيه، وإلا يكفل بناته، فقام أبو عزة بتحريض القبائل
بأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم، كما اختاروا شاعراً آخر - مسافع بن عبد
مناف الجمحي لنفس المهمة.
وكان أبو سفيان أشد تأليباً على المسلمين بعد ما رجع عن غزوة السويق
خائباً لم ينل ما في نفسه، بل أضاع مقداراً كبيراً من تمويناته في هذه
الغزوة.
وزاد الطينة بلة - أو زاد النار إذكاء - ما أصاب قريشاً أخيراً في سرية
زيد بن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها. وزودها من
الحزن والهم ما لا يقادر قدره، وحينئذ زادت سرعة قريش في استعدادها للخوض
في معركة تفصل بينهم وبين المسلمين.
قوام جيش قريش وقيادته:
ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها من المشركين
ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش ورأس قادة قريش أن يستصحبوا
معهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم
وأعراضهم، وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة.
وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير، ومن سلاح الفرسان مائتا
فرس، جنبوها طول الطريق، وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع.
وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب، وقيادة الفرسان إلى خالد بن
الوليد يعاونه عكرمة بن أبي جهل. أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار.
جيش مكة يتحرك:
تحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة، وكانت الثارات
القديمة والغيظ الكامن يشعل البغضاء في القلوب، ويشف عما سوف يقع من قتال
مرير.
الاستخبارات النبوية تكشف حركة العدو:
وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما
تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ضمنها جميع تفاصيل الجيش.
وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة، وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بين
مكة والمدينة - التي تبلغ مسافتها إلى خمسمائة كيلومتراً - في ثلاثة أيام،
وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد قباء.
قرأ الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب فأمره بالكتمان،
وعاد مسرعاً إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار.
استعداد المسلمين للطوارىء:
وظلت المدينة في حالة استنفار عام لا يفارق رجالها السلاح حتى وهم في الصلاة، استعداداً للطوارىء.
وقامت مفرزة من الأنصار - فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة
- بحراسة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكانوا يبيتون على بابه وعليهم
السلاح.
وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها خوفاً من أن يؤخذوا على غرة.
وقامت دوريات من المسلمين - لاكتشاف تحركات العدو -تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين.
الجيش المكي إلى أسوار المدينة:
وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسية المعتادة، ولما وصل إلى
الأبواء اقترحت هند بنت عتبة - زوج أبي سفيان - بنبش قبر أم رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم ، بيد أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب، وحذروا من
العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحوا هذا الباب.
ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، فسلك وادي العقيق، ثم انحرف
منه إلى ذات اليمين حتى نزل قريباً بجبل أحد في مكان يقال له عينين في بطن
السبخة من قناة على شفير الوادي - الذي يقع شمالي المدينة - فعسكر هناك
يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة.
يتبع غزوة احد
تكتيب الجيش الإسلامي وخروج إلى ساحة القتال:
ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس يوم الجمعة، فوعظهم وأمرهم بالجد
والاجتهاد، وأخبر أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح
الناس بذلك.
ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا وحضر أهل العوالي، ثم دخل بيته، ومعه
صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعين أي
لبس درعاً فوق درع وتقلد السيف، ثم خرج على الناس.
وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير
استكرهتم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه،
فندموا جميعاً على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له يا رسول اللَّه ما كان لنا
أن نخالفك. فاصنع ما شئت. إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. فقال رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته - وهي الدرع - أن
يضعها حتى يحكم اللَّه بينه وبين عدوه.
وقسم النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إلى ثلاث كتائب:
وكان الجيش متألفاً من ألف مقاتل فيهم مائة دارع وخمسون فارساً وقيل لم
يكن من الفرسان أحد، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي
في المدينة، وأذن بالرحيل فتحرك الجيش نحو الشمال، وخرج السعدان أمام
النبي صلى الله عليه وسلم يعدوان دارعين.
ولما جاوز ثنية الوداع رأى كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش، فسأل
عنها، فأخبر أنهم اليهود من حلفاء الخزرج يرغبون المساهمة في القتال ضد
المشركين، فسأل هل أسلموا؟ فقالوا: لا، فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل
الشرك.
استعراض الجيش:
وعندما وصل إلى مقام يقال له الشيخان استعرض جيشه، فرد من استصغره ولم يره
مطيقاً للقتال، وكان منهم عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد،
وأسيد بن ظهير وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزم،
وأبو سعيد الخدري، وزيد بن حارثة الأنصاري، وسعد بن حبة ويذكر في هؤلاء
البراء بن عازب، لكن حديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم.
وأجاز راع بن خديج، وسمرة بن جندب على صغر سنهما، وذلك أن رافع بن خديج
كان ماهراً في رماية النبل فأجازه فقال سمرة أنا أقوى من رافع، أنا أصرعه،
فلما أخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بذلك أمرهما أن يتصارعا أمامه،
فتصارعا، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه أيضاً.
المبيت بين أحد والمدينة:
وفي هذا المكان أدركهم المساء، فصلى المغرب، ثم صلى العشاء، وبات هنالك،
وانتخب خمسين رجلاً لحراسة المعسكر يتجولون حوله، وكان قائدهم محمد بن
مسلمة الأنصاري، بطل سرية كعب بن الأشرف، وتولى ذكوان بن عبد قيس حراسة
النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
تمرد عبد اللَّه بن أبي وأصحابه:
وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج حتى إذا كان بالشوط صلى الفجر، وكان بمقربة من
العدو. فقد كان يراهم ويرونه، وهناك تمرد عبد اللَّه بن أبي المنافق،
فانسحب بنحو ثلث العسكر - ثلاثمائة مقاتل - قائلاً ما ندري علام نقتل
أنفسنا؟ ومتظاهراً بالاحتجاج بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك رأيه
وأطاع غيره.
ولا شك أن سبب هذا الانعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم رأيه، وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى
هذا المكان معنى. بل لو كان هذا هو السبب لانعزل عن الجيش منذ بداية سيره،
بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد - في ذلك الظرف الدقيق - أن يحدث
البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين على مرأى ومسمع من عدوهم. حتى ينحاز
عامة الجيش عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتنهار معنويات من يبقى معه،
بينما يتشجع العدو، وتعلو همته لرؤية هذا المنظر، فيكون ذلك أسرع إلى
القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المخلصين، ويصحو بعد ذلك
الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه.
وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه، فقد همت طائفتان - بني
حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج - أن تفشلا، ولكن اللَّه تولاهما
فثبتتا بعد ما سرى فيهما الاضطراب وهمتا بالرجوع والانسحاب، وعنهما يقول
اللَّه تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا
وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ}
[آل عمران: 122].
وحاول عبد اللَّه بن حرام - والد جابر بن عبد اللَّه - تذكير هؤلاء
المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على
الرجوع، ويقول تعالوا قاتلوا في سبيل اللَّه أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم
أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم عبد اللَّه بن حرام قائلاً أبعدكم
اللَّه، أعداء اللَّه، فسيغني اللَّه عنكم نبيه.
وفي هؤلاء المنافقين يقول اللَّه تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ
نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ
ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ
لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167].
__________________
1. كتيبة المهاجرين وأعطى لواءها مصعب بن عمير العبدري.
2. كتيبة الأوس من الأنصار. وأعطى لواءها أسيد بن حضير.
3. كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطى لواءها الحباب بن المنذر.
يتبع غزوة احد
خطة الدفاع:
وهناك عبأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جيشه، وهيأهم صفوفاً للقتال،
فانتخب منهم فصيلة من الرماة الماهرين، قوامها خمسون مقاتلاً، وأعطى
قيادتها لعبد اللَّه بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي البدري، وأمرهم
بالتمركز على جبل يقع على الضفة الجنوبية من وادي قناة - وعرف فيما بعد
بجبل الرماة - جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد حوالي مائة وخمسين متراً
من مقر الجيش الإسلامي.
والهدف ن ذلك هو ما أبداه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في كلماته التي
ألقاها إلى هؤلاء الرماة فقد قاللقائدهم انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا
من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك. ثم قال
للرماة احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد
غنمنا فلا تشركونا وفي رواية البخاري أنه قال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير
فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأنهم،
فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
وبتعيين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة سد رسول
اللَّه صلى الله عليه وسلم الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين
أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين، ويقوموا بحركات الالتفاف وعملية
التطويق.
أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير
بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه
فرسان خالد بن الوليد، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان
المسلمين ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة، والذين يوزنون بالآلاف.
ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جداً، تتجلى فيها عبقرية قيادة النبي صلى الله
عليه وسلم العسكرية - وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة
أدق وأحكم من هذا - فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيه
بعد العدو، فقد حمى ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمى ميسرته وظهره - حين
يحتدم القتال - بسد الثلمة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي
واختار لمعسكره موضعاً مرتفعاً يحتمي به - إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين -
ولا يلتجىء إلى الفرار، حتى يتعرض للوقوع في قبضة الأعداء المطاردين
وأسرهم. ويلحق مع ذلك خسائر فادحة إلى أعدائه إن أرادوا احتلال معسكره
وتقدموا إليه، وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جداً أن
يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم، ويصعب عليهم الإفلات
من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين. كما أنه عوض النقص العددي
في رجاله باختيار نخبة ممتازة من أصحاب الشجعان البازين.
وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة ه.
الرسول صلى الله عليه وسلم ينفث روح البسالة في الجيش:
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عن الأخذ في القتال حتى يأمرهم،
وظاهر بين درعين، وحرض أصحابه على القتال، وحضهم على المصابرة والجلاد عند
اللقاء، وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه - حتى جرد سيفاً باتراً
ونادى أصحابه من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال ليأخذوه - منهم علي
بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب - حتى قام إليه أبو دجانة
سماك بن خرشة، فقال: وما حقه يا رسول اللَّه؟ قال: أن تضرب به وجوه العدو
حتى ينحني. قال: أنا آخذه بحقه يا رسول اللَّه، فأعطاه إياه.
وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا
اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت. فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك
العصابة، وجعل يتبختر بين الصفين، وحينئذ قال رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم إنها لمشية يبغضها اللَّه إلا في مثل هذا الموطن.
أول وقود المعركة:
وتقارب الجمعان، وتدانت الفئتان، وبدأت مراحل القتال، وكان أول وقود
المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري. وكان من أشجع فرسان
قريش. يسميه المسلمون كبش الكتيبة. خرج وهو راكب على جمل، يدعو إلى
المبارزة، فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته. ولكن تقدم إليه الزبير، ولم يمهله
بل وثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض، فألقاه
عنه وذبحه بسيفه.
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراع الرائع، فكبر وكبر المسلمون،
وأثنى على الزبير، وقال في حقه إن لكل نبي حوارياً، وحواري الزبير.
ثقل المعركة حول اللواء وإبادة حملته:
ثم اندلعت نيران المعركة، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط
الميدان. وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين. فقد تعاقب بنو عبد
الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة، فحمله أخوه أبو شيبة
عثمان بن أبي طلحة، وتقدم للقتال وهو يقول
إن على أهل اللواء حقاً
أن نخضب الصعدة أو تندقا
فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب، فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه، حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته.
ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب
حنجرته، فأدلع لسانه ومات لحينه. وقيل: بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز،
فتقدم إليه علي بن أبي طالب، فاختلفا ضربتين، فضربه عليه فقتله.
ثم رفع اللواء مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي
الأفلح بسهم فقتله. فحمل اللواء بعده أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة فانقض
عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله، ثم حمل اللواء أخوهما الجلاس بن
طلحة بن أبي طلحة، فطعنه طلحة بن عبيد اللَّه طعنة قضت على حياته. وقيل:
بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقضى عليه.
هؤلاء ستة نفر من بيت واحد، بيت أبي طلحة عبد اللَّه بن عثمان بن عبد
الدار، قتلوا جميعاً حول لواء المشركين، ثم حمله من بني عبد الدار أرطاة
بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، وقيل: حمزة بن عبد المطلب، ثم حمله
شريح بن قارظ فقتله قزمان - وكان منافقاً قاتل مع المسلمين حمية، لا عن
الإسلام - ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري، فقتله قزمان أيضاً.
ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضاً.
فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار - من حملة اللواء - أبيدوا عن آخرهم، ولم
يبق منهم أحد يحمل اللواء. فتقدم غلام لهم حبشي - اسمه صواب - فحمل اللواء
وأبدى من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين
قتلوا قبله فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه؛ لئلا
يسقط حتى قتل وهو يقول اللهم أعزرت؟ يعني هل اعذرت.
وبعد أن قتل هذا الغلام - صواب - سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله، فبقي ساقطاً.
[font=Comic Sans Ms][color=darkblue]يتبع غزوة احد
مصرع أسد اللَّه حمزة بن عبد المطلب:
يقول قاتل حمزة وحشي بن حرب كنت غلاماً لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة ابن
عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير إنك إن قتلت
حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس - وكنت رجلاً حبشياً
أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطىء بها شيئاً - فلما التقى الناس خرجت
أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس
هداً ما يقوم له شيء. فواللَّه إني لأتهيأ له أريده، فأستتر منه بشجرة حجر ليدن