قانون المرافعات
كان الرومان أكثر الشعوب القديمة ميلاً إلى التقاضي، على الرغم مما امتاز به قانون المرافعات عندهم من تعقيد فني وغموض محير مربك كان خليقاً بألا يشجعهم على الالتجاء إلى المحاكم. وما من شك في أنهم لو شهدوا إجراءاتنا القضائية لبدت لهم هي الأخرى طويلة مضللة؛ وكلما رجعنا في الحضارة إلى الوراء زادت القضايا طولاً؛ ولقد كان في وسع أي روماني، كما سبق القول، أن ينصب نفسه مدعياً في المحكمة الرومانية، وكان يطلب إلى المدعي والمدعى عليه والحاكم في عهد الجمهورية، حين كان يتولى الأشراف الحكم فيها، أن يسيروا على نهج معين يسمى الإجراء القانوني، إذا حاد أحدهم عنه قيد شعرة بطلت المحاكمة. وفي ذلك يقول جايوس: فإذا قاضى شخص آخر لأنه قطع كرمة ثم أطلق عليها في قضيته اسم "كروم" خسر القضية، فقد كان يجب عليه أن يسميها "أشجاراً" لأن اللفظ الوارد في الجداول الاثني عشر هو الأشجار لا الكروم بصفة خاصة(27). وكان كل من طرفي النزاع يودع لدى الحاكم مبلغاً من المال Sacramentum يضيع على من يخسر القضية، ويصبح من حق دين الدولة، وكان من الواجب على المدعي عليه أن يقدم كفالة تضمن بها المحكمة حضوره أمامها فيما بعد. فإذا تم هذا أحال الحاكم النزاع إلى رجل يختاره من ثبت يحتوي أسماء الرجال الذين يصح لهم أن يكونوا قضاة. وكان القاضي في بعض الأحيان يصدر حكماً تمهيدياً يوجب على أحد الطرفين المتقاضيين أو كليهما أن يقوم بعمل من الأعمال أو يمتنع عن القيام به، وإذا خسر المدعي عليه القضية كان من حق المدعي أن يستولي على أملاكه أو يقبض عليه حتى ينفذ الحكم.
وفي عام 150 ق.م ألغى قانون إيبوتيا الإجراءات المعقدة القديمة واستبدل بها إجراءات أخرى أقل منها تعقيداً؛ فلم يصبح من الضروري إتباع مراسم معينة أو النطق بألفاظ خاصة؛ وصار من حق المتقاضين أن يشتركوا مع الحاكم في تحديد الشكل الذي يعرض به النزاع على القاضي، ثم يصدر الحاكم بعدئذ إلى القاضي تعليمات بالحقائق الموضوعية والمسائل القانونية التي يتضمنها النزاع. وكانت هذه إحدى الوسائل التي وضع بها الحاكم أو البريتور "القانون البريتوري" فيما بعد. وجدت في القرن الثاني بعد الميلاد طريقة ثالثة للحكم في القضايا غير العادية، كان للحاكم بمقتضاها أن يفصل بنفسه في القضية. وقبل أن يختتم القرن الثالث اختفت الإجراءات السالفة الذكر عن آخرها وأصبح الحاكم هو الذي يصدر الأحكام بطريقة عاجلة، وكان ذلك الحاكم مسئولاً أمام الإمبراطور وحده مديناً له بمنصبه، فكان هذا إيذاناً بقيام الملكية المطلقة.
وكان في وسع المتقاضين أن يعرضوا بأنفسهم قضاياهم ثم يصدر البريتور أو القاضي حكمه فيها دون معونة المحامين إذا شاء المتقاضيان هذا؛ غير أنه لما كان القاضي في كثير من الأحيان رجلاً غير مدرب تدريباً مهنياً ولم يدرس القانون دراسة خاصة، ولما كانت العقبات الفنية تعترض المتقاضين في كل خطوة في القضية، فإن المتنازعين كانوا يلجئون في العادة إلى محامين ليترافعوا عنهم Avocati وإلى أخصائيين قانونيين Pragmatici وإلى مستشارين قانونيين Iurisconsulti وفقهاء قانونيين Iurisprudentes. ولم تكن المواهب القانونية تنقص الرومان، فقد كان كل أب يعز أبناءه يتوق إلى أن يرى ابنه محامياً، وكان القانون وقتئذ كما هو الآن الطريق الموصل إلى المناصب العامة. فنرى أحد الأشخاص في كتاب لبترونيوس يعطي ابنه طائفة من الكتب ذات الظهور الحمراء "ليتعلم قليلاً من القوانين" لأن "القانون يأتي بالمال"(28). وكان طالب القانون يبدأ بدراسة المبادئ القانونية على معلم خاص، ثم يشهد في المرحلة الثانية الاستشارات التي تعرض على أعلام فقهاء القانون، ويتمرن بعدئذ عند محام يترافع في القضايا. وأنشأ بعض المستشارين القانونيين في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد مدارس Stationes في أحياء مختلفة من مدينة رومة يعلمون فيها القانون أو يصدرون فيها فتاوي قانونية. ويشكو أميانس Ammianus من ارتفاع الأجور التي كان يفرضها هؤلاء الفقهاء، ويقول إنهم كانوا يتقاضون ثمن تثاؤبهم نفسه، ويحلون قتل الأم إذا أدى العميل أجراً كافياً(29). وكان هؤلاء المعلمون يسمون "أساتذة القانون"؛ ويلوح أن لفظ أستاذ Professor قد أطلق عليهم لأنه كان يطلب إليهم أن يعلنوا Profiteri عزمهم على أن يعلموا وأن يحصلوا بعدئذ من السلطات العامة على ترخيص بممارسة هذا العمل.(30).
صفحة العنوان من نسخ من القرن 16 من Digesta، وهي جزء من Corpus Juris Civilisجستنيان. للامبراطور
وكان لابد أن يوجد بين المحامين الكثيرين الذين يمارسون مهنتهم عدد منهم لا يتورعون عن بيع علمهم لأغراض صغيرة(31)، وعن قبول الرشا لكي يعرضوا قضايا موكليهم عرضاً ضعيفاً، وعن البحث عن ثغرات في القانون يبررون بها أية جريمة، وعن إثارة النزاع بين الأغنياء، وعن إطالة القضايا إلى أطول أجل يمكنهم من سلب أموال المتقاضين(33)، وأن يزلزلوا المحاكم أو السوق العامة بأسئلتهم الإرهابية وعباراتهم الموجزة البذيئة. ومنهم من اضطرهم التنافس على القضايا إلى العمل على نيل الشهرة بالهرولة في الشوارع وبأيديهم أضابير من الوثائق وبأصابعهم خواتم مستعارة، ومن خلفهم خدم وأتباع، ومصفقون مأجورون ليصفقوا لهم وهم يخطبون(34). وقد بلغ من كثرة الأساليب التي اخترعت للتملص من قانون سنسيوس Cincius القديم الخاص بأجور المحامين أن اضطر كلوديوس أن يجعل الحد القانوني الأعلى لهذه الأجور عشرة آلاف سسترس لكل قضية، وأن يجعل من حق المتقاضيين قانوناً أن يستردا ما زاد على هذا القدر(35). لكن هذا القيد كان يسهل الإفلات منه. فنحن نسمع أن محامياً في أيام فسبازيان جمع ثروة تبلغ 300.000.000 سسترس (نحو 30.000.000 ريال أمريكي)(36). غير أنه كان يوجد وقتئذ، كما يوجد في كل عصر من العصور، محامون وقضاة يضعون مواهبهم الصافية المنظمة في خدمة الحق والعدالة من غير نظر إلى الأجور، وكانت شهرة فقهاء قانون العظام الذين لا يعلو اسم على أسمائهم في تاريخ القانون، تطغى على نقائص أولئك المحامين الأدنياء.
وكانت المحاكم التي تنظر في قضايا المذنبين على درجات تختلف من المحاكم ذات القاضي أو الحاكم الواحد إلى الجمعيات الوطنية ومجلس الشيوخ والإمبراطور. وكان في وسع البريتور أن يختار بطريق القرعة بدل القاضي الواحد محلفين لا حد لعددهم، ولكنهم يكونون في العادة 51 أو 71 محلفاً ومن بين الثمانمائة والخمسين اسماً من أسماء طبقة الشيوخ أو الفرسان المدونة في ثبت المحلفين، وكان من حق المدعي والمدعى عليه أن يقدما ما شاءا من الاعتراضات على هذا الاختيار. وكانت محكمتان خاصتان تعقدان بصفة دائمة، إحداهما محكمة العشرة رجال Decemviri وتنظر في أحوال الأفراد المدنية، والثانية محكمة المائة Centumviri وتنظر في قضايا الملك والميراث. وكانت المرافعات أمام هذين النوعين من المحاكم علنية يباح حضورها للجمهور، لأنا نرى بلني الأصغر يصف الجمهور الكبير الذي حضر ليستمع إليه وهو يترافع أمام المحكمة الثانية(37). ويشكو جوڤنال وأپوليوس Apuleius من الارتشاء وكثرة التأجيل في هذه المحاكم، ولكن غضبهما نفسه يوحي بأن ما يشكوان منه كان من العيوب الاستثنائية القليلة.
وكانت المحاكمات تمتاز بنصيب من الحرية في القول والفعل قل أن نجد له نظيراً في محاكم هذه الأيام. وكان في وسع عدد من المحامين أن يحضروا مع كل طرف من طرفي النزاع؛ منهم من تخصص في تحضير البينات، ومنهم من تخصص في عرضها على المحكمة. وكان كتبة مختلفون Norarii، Actuarii، Scribea يسجلون المرافعات، وكان بعضها يسجل بطريقة الاختزال. ويصف مارتيال بعض أولئك الكتبة بقوله: "ومهما تكن السرعة التي تقال بها الألفاظ، فإن أيديهم أسرع منها"(41). ويصف أفلوطرخس الطريقة التي كان المختزلون يدونون بها خطب شيشرون، والتي كانت تضايقه في أكثر الأحيان. وكان الشهود يعاملون حسب السوابق التي خلع عليها طول العهد ثوباً من الوقار، والتي يصفها كونتليان بعبارته التي لا يعلو عليها وصف آخر فيقول:
"إذا أريد الفحص عن شهادة شاهد فإن أول ما تجب مراعاته هو صنف هذا الشاهد نفسه. ذلك أن الشاهد الجبان يستطاع إرهابه، والشاهد الأبله يمكن التفوق عليه في الدهاء، والرجل الغضوب يمكن استثارته، والرجل المغرور يستطاع تملقه. أما الشاهد الذكي الأريب الرابط الجأش فيجب إبعاده على الفور لأنه خبيث عنيد أو... إذا كان في حياته الماضية ما يعاب عليه، فإن شهادته يستطاع نقضها بما يمكن مجابهته به من التهم الفاضحة"(42). وكان في وسع المحامي أن يدلي بما شاء من الحجج. فكان يستطيع أن يطلع المحكمة على ما لديه من صور خاصة بالجريمة المزعومة، مرسومة على القماش أو الخشب؛ وكان في مقدوره أن يمسك طفلاً بين يديه وهو يناقش نقطة من النقط؛ وكان يحق له أن يكشف عما في جسم جندي متهم من ندوب وما في جسم عميله من جروح. وقد ابتدعت الدفوع لمقاومة مفعول هذه الأسلحة؛ فها هو ذا كونتليان يحدثنا عن حيلة لجأ إليها محام جاء خصمه بأطفال موكله إلى المحكمة ليوضح بهم مرافعته، فما كان منه إلا أن ألقى بينهم بنرد، فزحف الأطفال على أرض المحكمة، وأفسدوا بذلك على المحامي ختام قضيته(43). وكان من المستطاع تعذيب العبيد إذا كانوا أحد طرفي الخصومة لانتزاع الشهادة منهم، ولكن الشهادة المنتزعة بهذه الطريقة لم تكن تقبل ضد مالكيهم. وقد أصدر مرسوما يحرم فيها تعذيب العبيد لانتزاع إقرار منهم بجريمتهم، إلا إذا لم يفلح معهم كل ما عدا ذلك من الوسائل، على أن يتبع في هذا التعذيب أدق الإجراءات المرسومة له، ونبه المحاكم إلى أن الشهادة المنتزعة بالتعذيب لا يستطاع الوثوق بها على الإطلاق. على أن التعذيب القانوني ظل رغم هذا من الوسائل التي يلجأ إليها، واتسع نطاقه في القرن الثالث حتى شمل الأحرار(44). وكان المحلفون يعطون أصواتهم بإيداع ألواح ذات علامات خاصة في وعاء، وكانت أغلبيتهم المطلقة تكفي لإصدار القرار. وكان في وسع من يخسر القضية في كثير من الأحيان أن يستأنف الحكم أمام محكمة أعلى درجة من المحكمة التي أصدرته، وكان في مقدوره أن يستأنفه أمام الإمبراطور نفسه إذا أمكنته موارده من ذلك.
وكان القانون هو الذي يحدد العقوبات فلم تكن تترك لاختيار القضاة أنفسهم. وكانت هذه العقوبات تختلف باختلاف منزلة المحكوم عليه، وكان أقساها ما يوقع على العبيد، فقد كان بالاستطاعة أن يحكم على العبد بالصلب، أما المواطن فلم يكن يستطاع صلبه؛ ولم يكن يستطاع جلد المواطن الروماني، أو تعذيبه، أو قتله دون أن يستأنف حكم القتل أمام الإمبراطور، ويتضح ذلك لكل من يطلع على سفر أعمال الرسل. وكانت العقوبات تختلف في الجريمة الواحدة باختلاف منزلة المذنب وهل هو من "ذوي الشرف" Honestiores أو من "المنحطين Humiliores؛ كما كانت تختلف في حال الرجل الحر المولد والمحرر، والمفلس وغير المفلس، والجندي والمدني. ولما كانت قيمة العملة تتغير أسرع من تغير العقوبات المقررة في القانون فقد نشأ عن ذلك التغير السريع بعض الشذوذ والتناقض. من ذلك أن الجداول الاثني عشر كانت تفرض غرامة مقدارها خمسة وعشرون آساً (وكانت في الأصل خمسة وعشرين رطلاً من النحاس) على من يضرب رجلاً حراً؛ فلما انخفضت قيمة الآس بسبب غلاء الأسعار إلى ما يعادل 6|100 من الريال الأمريكي أخذ لوسيوس ڤراتيوس Lucius Veratius يصفع الأحرار على وجوههم، ومن ورائه عبد يعد خمسة وعشرين آساً لكل من يتلقى الصفعة(45). وكانت بعض الجرائم يعاقب عليها بفرض "الصمت" على من يرتكبها. وكان يقصد بالصمت في الغالب منع المحكوم عليه من الحضور في القضايا بشخصه أو أن ينيب عنه من يمثله؛ وأشد من هذا العقاب أن يفقد المجرم حقوقه المدنية Capitis Drminutiso. وكان فقدان هذه الحقوق يتدرج من فقد الأهلية للميراث، إلى الطرد من البلاد، إلى الاسترقاق. وكان الطرد أقسى صورة من صور النفي: فقد كان المطرود يقيد بالأغلال، ويحجز في مكان حقير، وتنتزع منه كل أملاكه. أما النفي Exilium فكان أخف من الطرد، فقد كان يسمح فيه للمنفى أن يعيش حراً في أي مكان يشاء خارج إيطاليا؛ ويختلف الطرد والنفي عن الأبعاد، ذلك أن الإبعاد- كما حدث لأوفد- لم يكن يتضمن مصادرة المال، وكل ما في الأمر أن المبعد كان يرغم على الإقامة في بلدة معينة، بعيدة في العادة عن رومة. وقلما كان يلجأ إلى السجن ليكون عقوبة دائمة، ولكن كان في الاستطاعة أن يحكم على الرجال بالاشتغال في الأعمال العامة، أو في المناجم أو المحاجر التي تستغلها الدولة. وكان في وسع الرجل الحر المحكوم عليه بالإعدام في عهد الجمهورية أن ينجو من العقاب إذا أخرج من رومة أو من إيطاليا؛ وازدادت أحكام الإعدام في عهد الإمبراطورية في عددها وقسوتها، فكان أسرى الحرب، والمحكوم عليهم بالإعدام من غير الأسرى في بعض الأحيان، يلقون في جب تليان ليموتوا من الجوع وفتك الحشرات القارضة والقمل في السراديب المظلمة وسط الأقذار التي لا يستطيعون إزالتها(46). وفي مثل هذه الأماكن مات جوگورتا وسيمون بن جيوڤا Simon Ben- Giova اليهودي الذي دافع عن أورشليم ضد تيتس، وفي مثلها كما تقول الرواية المتواترة: عذّب القديسان بطرس وبولس قبل أن يصلبا، وكتبا آخر رسائلهما إلى العالم المسيحي الناشئ.
قانون الأمم
شيشرون، مؤلف الكتاب الكلاسيكي القوانين يهاجم كاتيلينا، الذي خان الجمهورية، في مجلس الشيوخ الروماني
وكانت أعقد المشاكل التي واجهها القانون الروماني أن يكيف نفسه، وهو قانون الدولة السيدة ذات العقلية الممتازة، بحيث لا يتعارض مع القوانين السائدة أو العادات المرعية في الأراضي التي أخضعتها رومة لسلطانها بقوتها العسكرية أو مهارتها السياسية. وكان عدد كبير من هذه الدول الخاضعة لرومة أقدم منها، وكان لها من تقاليدها التي تفخر بها ومن أساليبها الخاصة التي تحرص عليها وتعتز بها ما يعوضها عما فقدته من قوتها العسكرية. وقد استطاعت رومة أن تتغلب على هذه المشكلة بمهارة فائقة، فقد عينت في بادئ الأمر بريتوراً يختص بشئون الأجانب Praetor Peregrinus القاطنين في رومة ثم القاطنين في إيطاليا، ثم في الأقاليم الخارجية، وجعل من حقه أن يوفق بين القانون الروماني والقانون المحلي توفيقاً دائماً. ولقد نشأ من القرارات التي يصدرها البريتورون، وحكام الولايات، والإيديلون على مر الزمن قانون الأمم الذي كان يطبق على الإمبراطورية بأجمعها، والتي كانت تحكم بمقتضاه.
ولم يكن "قانون الأمم" قانوناً دولياً، أي أنه لم يكن طائفة من الالتزامات والأحكام ارتضه الدول بوجه عام لتحديد علاقاتها بعضها ببعض. لقد كان في العهد القديم قانون دولي إذا لم تفهم من هذا اللفظ بمعناه في الزمن القديم معنى أدق كثيراً مما نفهمه منه في هذه الأيام. فقد كانت بعض العادات العامة تراعى ويتقيد بها في السلم والحرب- كالحماية المتبادلة للتجار والدبلوماسيين الدوليين، ووقف القتال لدفن الموتى، والامتناع عن استخدام السهام المسمومة، وما إلى هذا. وكان فقهاء القانون الروماني يصفون قانون الأمم هذا ius gentium بأنه قانون عام يشمل الأمم جميعها، ولكن هذا لم يكن إلا من قبيل التفاخر الوطني الكاذب. على أنه لم يكونوا يعزون إلى رومة أكبر من نصيبها الحق فيه. فقد كان في واقع الأمر قوانين محلية كيفت بحيث تتفق مع السيادة الرومانية، وكان الغرض منها أن يستطاع بها حكم شعوب إيطاليا والولايات التابعة للدولة الرومانية من غير أن يعطى لأهلها حق المواطنية الرومانية وغيرها من الحقوق المنصوص عليها في القانون المدني.
وبمثل هذه الدعوى الكاذبة حاول الفلاسفة أن يقولوا إن قانون الأمم هو "قانون الطبيعة". وكان الرواقيون يعرفون قانون الطبيعة بأنه قانون أخلاقي متأصل في الإنسان بفعل "العقل الفطري". وكانوا يعتقدون أن الطبيعة نظام من نظم العقل، قوامه المنطق والترتيب المحكم الكامن في الأشياء جميعها. وهذا الترتيب المحكم الذي ينمو في المجتمع من تلقاء نفسه، ثم يصل إلى مستوى الوعي في الإنسان، هو القانون الطبيعي، وقد عبر شيشرون عن هذا الوهم بعبارة ذائعة الصيت فقال:
"إن القانون الصحيح هو العقل الحق المتفق مع الطبيعة، والذي يدخل في نطاقه العالم بأسره، والسرمدي الذي لا يتبدل... وليس من حقنا أن نقاوم ذلك القانون أن نبدله، وليس في مقدورنا أن نلغيه، ولا نستطيع أن نتحرر مما يفرضه علينا من التزامات بالتشريع أياً كان، ولسنا في حاجة إلى أن ننظر في خارج أنفسنا لنبحث عن شرح له أو توضيح. وهذا القانون لا يختلف في رومة عنه في أثينة، ولا في الحاضر عنه في المستقبل... وهو قانون صحيح ثابت عند جميع الأمم وفي جميع الأحقاب... ومن عصاه فقد أنكر نفسه وأنكر طبيعته"(47).
ذلك وصف كامل لمثل أعلى أخذ يزداد قوة حين جلست الرواقية على العرش في عهد الأنطونيين. وما زال البيان يرفع من شأنه حتى بلغ على يديه ذلك المبدأ الواسع المدى القائل بأن ما بين الطبقات من فروق ومميزات أمور عارضة اصطناعية. ولم يكن ثمة إلا خطوة واحدة بين هذا المبدأ وبين الفكرة المسيحية القائلة بأن الناس في حقيقة أمرهم أكفاء. غير أن جايوس عرف قانون الأمم بأنه ليس أكثر من "القانون الذي شرعه العقل الفطري بين البشر جميعاً" كان يعتقد خطأ أن الأسلحة الرومانية هي الإرادة الإلهية، ذلك أن القانون الروماني كان هو منطق القوة وهدفها الاقتصادي؛ ولم تكن القوانين العظمى المدنية والأممية إلا القواعد التي يخلع بها الفاتح الحكيم النظام، والاطراد، والقداسة الزمنية على تلك السيادة القائمة على قوة الفيالق. نعم إن هذه القوانين كانت طبيعية، بمعنى أنه كان من الطبيعي أن يستخدم الأقوياء الضعفاء وأن يسيئوا استخدامهم.
لكن هذا الصرح المهيب من أداة الحكم التي يطلق عليها اسم القانون الروماني كان فيه شيء من النبل. وإذا كان لا بد أن يكون الحكام هم الأقوياء فإن من الخير أن تكون القواعد التي يفرض بها سلطانه واضحة صريحة، وبهذا المعنى يكون القانون هو استقرار القوة واستقامتها. ولقد كان من الطبيعي أن ينشئ الرومان أعظم نظام قانوني في التاريخ كله. ذلك أنهم كانوا يحبون النظام وأنهم كانت لديهم الوسائل التي تمكنهم من فرضه على الناس، وقد فرضوا على مئات من الأمم المختلفة المشارب و الأجناس التي كانت تتخبط في دياجير الفوضى والاضطراب سلطاناً وسلاماً، لا ننكر أنهما لم يبلغا حد الكمال ولكنهما كانا في واقع الأمر جليلي القدر عظيمي الأثر. ولقد كان لغير رومة من الدول التي قامت قبلها قوانين، ونشأ فيها مشترعون أمثال حمورابي وصولون سنوا طائفة مكتملة من التشريعات الإنسانية الرحيمة، غير أنه لم يوجد قط شعب غير الرومان أفلح فيما أفلحوا هم فيه من تنسيق الشرائع وتوحيدها وتقنينها، وهي أعمال كانت الشغل الشاغل لأصحاب العقول الجبارة في رومة من عهد أبناء اسكافولا Scaavola إلى جستنيان.
وقد يسرت مرونة قانون الأمم انتقال القانون الروماني إلى الدول الأخرى في العصور الوسطى وفي عصرنا الحاضر. وكان من محاسن الصدف أنه بينما كانت الفوضى التي أعقبت غارات البرابرة تقضي على التراث القانوني في غربي أوربا، كان قانون جستنيان، وموجزه، ونظمه تجمع وتصاغ في القسطنطينية في ظل الاستقرار والثبات النسبيين السائدين في شرقيها. وبفضل هذه الجهود، وعشرات الوسائل الأقل منها شأناً، وأساليب الحياة الصامتة الدائبة، دخل القانون الروماني في الشرائع الدينية التي سنتها الكنيسة في العصور الوسطى، وكانت هي الوحي الملهم لعقول المفكرين في عصر النهضة، وأضحت هي الأساس التي قامت عليه قوانين إيطاليا، وأسبانيا، وفرنسا، وألمانيا، وبلاد المجر، وبوهيميا، وبولندة، بل واسكتلندة، وكوبك، وسيلان، وأفريقية الجنوبية من بلاد الإمبراطورية البريطانية. ولقد استمد القانون الإنجليزي نفسه، وهو الصرح القانوني الوحيد الذي يضارع القانون الروماني في اتساع المدى، قواعد العدالة، والقوانين البحرية، والولاية، والإرث من القانون الروماني. وإذا أحصينا أثمن ما ورثناه من العالم القديم قلنا إنه هو العلوم والفلسفة اليونانية، والمسيحية اليهودية اليونانية، والديموقراطية اليونانية الرومانية، والقانون الروماني.